لم يسبق لسانت بيير وميكلون، هذا الإقليم الفرنسي ذو الحكم الذاتي الواقع قبالة سواحل كندا والذي لا يتجاوز عدد سكانه 6000 نسمة، أن يتصدر عناوين الصحف العالمية. إلا أن ذلك تغير فجأة عندما فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال ما يُعرف بـ”يوم التحرير” الأسبوع الماضي، واحدة من أشد الرسوم الجمركية في العالم على هذا الأرخبيل الصغير.
في الثاني من أبريل/نيسان، أعلنت إدارة ترامب أن سانت بيير وميكلون فرضت رسومًا جمركية بنسبة 99% على الولايات المتحدة، وهو ادعاء أثار جدلًا واسعًا. واستنادًا إلى هذا الرقم المفترض، قام فريق ترامب بمراجعته وخفضه إلى النصف، ليتم فرض تعريفة “متبادلة” بنسبة 50%. ونتيجة لذلك، وجدت سانت بيير وميكلون نفسها فجأة إلى جانب ليسوتو بين الدول التي تواجه أعلى الرسوم الجمركية في العالم.
في تعليق على هذا القرار، قال ستيفان لينورماند، ممثل حزب الحريات والمستقلين وأقاليم ما وراء البحار في الجمعية الوطنية، في حديث ليورونيوز: “كان من المفاجئ بعض الشيء أن نجد أنفسنا فجأة في موقع العدو الأول للولايات المتحدة، خاصةً أننا إقليم صغير يعاني أصلًا من التضخم”.
ومع تصاعد الضغوط وردود الفعل، لم تستمر هذه التعريفات المشددة طويلًا، إذ قرر ترامب بعد بضعة أيام التراجع عن قراره، ليخفض الرسوم الجمركية المفروضة على سانت بيير وميكلون إلى 10%، ما خفف من حدة الأزمة التي كادت أن تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد المحلي للإقليم.
ورغم إعلان الإدارة الأمريكية عن فرض تعريفات جمركية بنسبة 50%، ظل الكثيرون في حيرة من أمرهم حول كيفية توصل الرئيس ترامب إلى هذه النسبة، خاصة أن أرشيف مكتب الإحصاء الأمريكي يشير إلى أن حجم التجارة بين الولايات المتحدة وسانت بيير وميكلون كان في حدوده الدنيا خلال العقود الثلاثة الماضية.
وفي هذا السياق، أوضح مسؤولون أن البيانات الأمريكية لا تعكس جميع المنتجات القادمة من سانت بيير وميكلون إلى السوق الأمريكية عبر كندا، وهو ما يعني أن الاتصال التجاري المباشر بين الطرفين يكاد يكون معدومًا، باستثناء بعض الأنشطة المتعلقة بمصايد الأسماك.
لكن المفارقة أن الأسماك كانت جوهر المشكلة، حيث استندت إدارة ترامب في حسابها للتعريفات الجمركية إلى بيانات عام 2024 فقط، وهو عام استثنائي من حيث حجم المبيعات لسانت بيير وميكلون. ففي يوليو/تموز من ذلك العام، تلقت البلاد طلبًا قياسيًا على أسماك الهلبوت، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الصادرات إلى الولايات المتحدة إلى 3.08 مليون يورو (2.84 مليون دولار)، في حين بلغت الواردات من الولايات المتحدة 90,570 يورو (100 ألف دولار) فقط.
واعتمدت إدارة ترامب في احتساب التعريفات على معادلة بسيطة، إذ قامت بقسمة العجز التجاري للولايات المتحدة مع أي دولة على إجمالي صادرات تلك الدولة إلى السوق الأمريكية. غير أن هذه المنهجية أثارت شكوكًا بين خبراء الاقتصاد، الذين أكدوا أنها تعكس الخلل في الميزان التجاري لكنها لا تعبر بدقة عن مستوى التعريفات الفعلية المفروضة على الولايات المتحدة.
وفي ظل هذه التطورات، أكد برنار بريان، رئيس المجلس الإقليمي لسانت بيير وميكلون، في تصريح ليورونيوز، أن الإقليم “سيواصل متابعة ردود فعل الاتحاد الأوروبي وكندا، باعتبارهما الشريكين التجاريين الرئيسيين لنا”.
سياسي فرنسي يزيد من متاعب سكان الجزيرة
وفي الوقت الذي اعتقد فيه سكان الجزيرة أن الأضواء الإعلامية بدأت تخفت بعد أزمة التعريفات الجمركية، عادت أنظار فرنسا لتتجه نحو الأرخبيل مجددًا، ولكن هذه المرة بسبب جدل سياسي أثاره لوران واكيز، النائب في الجمعية الوطنية الفرنسية.
فقد طرح واكيز مقترحًا مثيرًا للجدل يقضي بمنح الرعايا الأجانب الملزمين بمغادرة الأراضي الفرنسية (المعروفين باسم OTQF) خيارين لا ثالث لهما: إما احتجازهم في سانت بيير وميكلون أو إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. وكجزء من خطته، اقترح أن يتم منع أي شخص مرحّل إلى الجزيرة من العودة إلى فرنسا، مشددًا على أن الأرخبيل، الواقع خارج منطقة شنغن، يجب أن يُستخدم لهذا الغرض.
وأثار هذا التصريح موجة انتقادات واسعة، حيث قوبلت مقابلة واكيز مع صحيفة JDNews الفرنسية برفض قاطع من مختلف الأطياف السياسية. وسارع مانويل فالس، وزير شؤون أقاليم ما وراء البحار، إلى التنديد بهذه التصريحات، مؤكدًا أن “أي حملة سياسية داخلية لا ينبغي أن تصل إلى حد ازدراء أحد أقاليم الجمهورية الفرنسية”.
كما انضمت شخصيات سياسية أخرى، مثل آنيك جيراردان، وزيرة أقاليم ما وراء البحار السابقة، إلى موجة الانتقادات، داعيةً واكيز إلى تقديم اعتذار علني. لكن يبدو أن الاعتذار ليس خيارًا مطروحًا بالنسبة للنائب المثير للجدل، الذي يسعى للفوز برئاسة حزب الجمهوريين المحافظ في الانتخابات الداخلية المقبلة.
وفي خطوة أثارت مزيدًا من الاستياء، دعا واكيز أنصاره إلى مكالمة عبر تطبيق زووم يوم الخميس لمناقشة اقتراحه، وهو ما دفع السياسي المحلي برنار بريان إلى حث سكان الجزيرة على الانضمام والمشاركة في النقاش.
وخلال المكالمة، أقر واكيز بأن اقتراحه قوبل برفض واضح من قبل سكان الجزيرة والسياسيين المحليين، لكنه دافع عنه بالقول: “الناس في جميع أنحاء فرنسا الذين يعيشون بالقرب من مراكز الاحتجاز ليسوا سعداء بذلك أيضًا”.
وفي تصريح ليورونيوز، ردّ برنار بريان بغضب، قائلًا: “كان بإمكان السيد واكيز أن يذكر أي إقليم فرنسي آخر غير مأهول في ما وراء البحار، لكنه اختار أن يُظهر هذا الازدراء الصريح لسكان سانت بيير وميكلون”.
ردود فعل غاضبة وآمال غير متوقعة
مع تصاعد الجدل حول اقتراح لوران واكيز، لم يخفِ سكان سانت بيير وميكلون غضبهم من فكرة استخدام منطقتهم كمكبّ لمشاكل بقية فرنسا. وقال برنار بريان، السياسي المحلي، إن “العديد من السكان عبّروا عن استيائهم الشديد من هذا الطرح غير المنصف”.
وأضاف مستشهدًا بأحد السكان الأصليين من بريتاني: “من حيث أتيت، هناك مثل يقول: لا تمطر إلا على الحمقى. وإذا جاء واكيز إلى هنا، فسيتساقط الثلج على رأسه طوال العام!”، مشيرًا إلى أن هذا التعبير يلخّص بشكل واضح مدى رفض السكان لهذا المقترح.
من جانبه، حاول واكيز تبرير اقتراحه بالإشارة إلى أن المناخ القاسي في الأرخبيل، الواقع قبالة سواحل كندا، سيكون رادعًا فعالًا، قائلاً: “يبلغ متوسط درجة الحرارة 5 درجات مئوية على مدار العام، مع 146 يومًا من الأمطار والثلوج. أعتقد أن ذلك سيجعل الجميع يفكر بسرعة في قراراتهم”.
لكن هذه التصريحات قوبلت بتساؤلات حادة من ستيفان لينورماند، النائب الذي يمثل الجزر في الجمعية الوطنية الفرنسية، حيث تساءل مستنكرًا: “كيف يمكن ترحيل الأشخاص الذين يُطلب منهم مغادرة الأراضي الفرنسية إلى سانت بيير وميكلون، وهي في الأساس أراضٍ فرنسية؟”.
وأضاف أن “إقليمنا يضم واحدًا من أصغر السجون في فرنسا، لذا سيكون من المستحيل عمليًا استضافة مئات السجناء”، مما يبرز الطابع غير الواقعي لمقترح واكيز.
ورغم هذا الجدل المتصاعد، لا يزال لينورماند متفائلًا بأن الاهتمام المفاجئ الذي حظيت به الجزيرة خلال أسبوع واحد، سواء من ترامب أو واكيز، قد يحمل في طياته بعض الفوائد غير المتوقعة.
واختتم حديثه قائلاً: “أنا متفائل وأود أن أؤمن بأن هذه الضجة قد تفتح لنا فرصًا جديدة، سواء من حيث الأعمال التجارية أو حتى جذب سكان جدد، بما في ذلك بعض المغتربين الذين نسعى لإعادتهم إلى الوطن”.