عشرات القتلى من المهاجرين الأفارقة. لم يكن الموت هذه المرّة بين الأمواج المتلاطمة، ولا بسبب قارب مهترئ أو سمسار هجرة غير شرعيّة. في اليمن، قتل 68 شخصا بينهم عشرات المهاجرين إثر غارة أمريكية استهدفت مركزًا لاحتجازهم بمحافظة صعدة.
وفق منظمة “هيومن رايتس ووتش” لم يكن هذا القصف الأول الذي تعرض له مركز الاحتجاز هذا. ففي عام 2022 قصفه التحالف بقيادة السعودية، وأسفر حينها عن مقتل 91 شخصا. تصف المنظمة ما جرى بأنه “جريمة حرب محتملة قد تكون الولايات المتحدة متواطئة فيها”.
وبالعودة شيئاً فشيئًا في الماضي القريب، نجد أنّ عدّاد الموت دائمًا ما يلاحق هؤلاء المهاجرين، وهم في طريقهم عبر البحر إلى سواحل اليمن، أو خلال عبورهم منه إلى حيث مقاصدهم التي غالبًا ما تكون دولة من دول الخليج.
واللافت منذ سنوات عديدة أنّ اليمن أصبح إحدى أبرز عقد الوصل في مسارات الهجرة غير الشرعية عالميًّا. ويستقرّ هناك الكثير ممن يحالفظهم الحظ بعد عبور المسار البحري الخطير من بلدانهم إلى اليمن. وتتركّز هذه الهجرات من دول القرن الأفريقيّ وإثيوبيا.
نظرة فاحصة للخريطة تؤكّد أنّ موقع اليمن بوصفه البوابة الجنوبيّة الغربيّة للخليج، وعلى التماس من إثيوبيا، وبمحاذاة القرن الأفريقي، يجعل منه نقطة العبور الأهم والأبرز في مسارات هذه الهجرة.
يسمّى هذا المسار طريق الهجرة الشرقي، وهو من أخطر طرق الهجرة في العالم لأنّه يشهد الكثير من حوادث الغرق. وقد شهد العام 2024 وقوع أكبر عدد من الضحايا بحسب المنظمة الدولية للهجرة. وتشير إحصاءات المنظمة 337 حالة وفاة غرقًا على طول مسار الهجرة غير الشرعية إلى اليمن من القرن الأفريقي وإثيوبيا.
التفاصيل التي توردها المنظمة عن حوادث الغرق توضح كم أنّ المشهد مأسوي. ويكفي أن يقرأ المرء أنّ مشغلي أحد القوارب أمروا المهاجرين بمغادرة القارب، والنزول في المياه المفتوحة والعميقة والبعيدة عن الشواطئ، كي نفهم خطورة هذا الطريق.
أمّا من يحالفهم الحظ والموج في الوصول إلى اليمن، فلا يعني ذلك أنّ المخاطر تكون قد زالت. فهم أمام اختبار عبور العوائق، ومن أبرزها احتمالات الطرد القسري إلى وجهاتٍ لا يدرون شيئًا عنها. كما أنّ هؤلاء المهاجرين عادةً ما يكونون عرضةً للعنف من قبل مختلف الجهات المسيطرة على طول خط الساحل اليمنيّ. وبالإضافة إلى ذلك، قد يتعرض المهاجرون الاحجاز القسري أو الاستغلال، وكلّ ذلك جزء من هذه الرحلة التي تعدّ مسافتها البحرية قصيرة زمنيًّا وتتراوح بين 18 و24 ساعة، وبكلفة تصل حدود 200 دولار أمريكي (176 يورو).
وخلال حقبة تسعينيّات القرن الماضي، حين شهدت دول القرن الأفريقيّ حروبها الأهليّة والاقليميّة شكلّ المهاجرون من هذه الدول، ولا سيّما الصومال أكثرية بين من يتجهون نحو اليمن. لكنّ هذا الواقع تبدّل في السنوات الأخيرة. فقد بات الإثيوبيّون يشكّلون النسبة الأكبر بين المهاجرين غير الشرعيّين إلى اليمن بنسبة تتجاوز 85% من مجمل أعدادهم.
ووفق أرقام الأمم المتحدة في عام 2024، بلغ عدد المهاجرين من القرن الأفريقي إلى اليمن نحو 6350 خلال شهر تشرين الأول / أكتوبر بزيادة بنسبة 136% عن شهر أيلول / سبتمبر. ويتراوح عدد المهاجرين الأفارقة في اليمن بين 200 ألف و308 آلاف.
وخلال الفترة الممتدّة بين عامي 2020 و2023 ارتفاع عدد المهاجرين الأثيوبييون والصوماليين إلى اليمن من نحو 38 ألفا إلى أكثر من 97 ألفا. أمّأ عام 2019 فقد شهد الرقم الأعلى حيث بلغ عدد هؤلاء المهاجرين نحو 147 ألفا.
ويشير مركز البيانات الإقليميّ للمنظمة الدوليّة للهجرة لشرق أفريقيا والقرن الأفريقيّ والجنوب الأفريقيّ، إلى أنّ عام 2024 شهد 446 ألف حركة على امتداد الطريق الشرقي، واللافت أن 10% من هذه الحركة نفذّها أطفال.
وبالنظر إلى خريطة الساحل اليمنيّ، نجد أنّ المسار من جيبوتي يقود إلى خليج عدن، ثم نحو منطقة لحج غرب اليمن ثم إكمال الطريق الساحلي عبر الحُديدة. وبينما يتركّز المهاجرون من جيبوتي في تعز، يتمركز الآتون من الصومال في محافظة شبوة، أما الذين يريدون التوجّه نحو دول الخليج لإأقرب الطرق إليهم حضرموت والمهرة.
أما في محافظة صعدة شمال البلاد فيتجمّع المهاجرون الذين يقصدون السعودية. وباتت المملكة تشدّد من إجراءاتها الحدوديّة، وقوانينها التي تسعى من خلالها إلى الحدّ من العمالة الأجنبيّة. وتشير دراسة نشرها منتدر “فكرة” التابع لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إلى أنّه في الفترة بين عامي 2018 و2020 أعادت السعودية 300 ألف عامل أثيوبيّ. ولعلّ الإجراءات التي اتّخذتها السعودية أخيرًأ بحق مواطني عدد من الدول بما يخص التأشيرات، تأتي ضمن هذا السياق أيضا.
بحسب المنظمة البحرية الدولية، يعيش 48% من المهاجرين الأفارقة بلا مأوى، و17% في مساكن مؤقتة، و42% منهم يعتمدون على أعمال موسميّة غير ثابتة المدخول، و35% منهم ليس لديهم أي مورد ماليّ.
أمام مرارة هذا الواقع تسجّل محاولات بعض المهاجرين الأفارقة للعودة إلى أوطانهم عبر قوارب التهريب نفسها التي جاؤوا بها. أكثر من 3500 مهاجراً عادوا إلى القرن الأفريقي وهو عدد قليل مقارنةً بعدد المهاجرين. وفيما لا تزال المنظمّة الدولية للهجرة عاجزة عن تنظيم ما يكفي من رحلات العودة الطوعيّة للاجئين الراغبين في العودة إلى بلدانهم الأصلية، يبقى اليمن مقصدًا للمهاجرين بفعل موقعه الجغرافي، وأوضاع بلدانهم الصعبة، من دون أيّ مؤشراتٍ تلوح في الأفق وتبشّر بنهاية هذه المأساة.