صدر مؤخرًا كتاب بعنوان “رائحة الموت”، يهدف إلى توثيق وشرح الأبعاد التقنية والاستخباراتية والتنفيذية لعمليات الموساد داخل إيران، بما يشمل ما يُعرف بحرب الأيام الاثني عشر. وبحسب المعلومات المتاحة على منصتي Google Books وAmazon، يعود تأليف الكتاب إلى إسحاق غولدشتاين. وحدّد موقع Amazon تاريخ إصدار الكتاب في الأول من ديسمبر من العام الجاري.
غير أن اللافت هو نشر معلومات السيرة الذاتية بشكل غير دقيق، إذ ظهر اسم سيمون بيكيت، مؤلف رواية تحمل عنوانًا مشابهًا “رائحة الموت”، في حين لا تتوافر أي معلومات أخرى عن إسحاق غولدشتاين.
وقال أحمد علم الهدى، إمام الجمعة في مشهد ووالد زوجة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، في الخطبة الثانية لصلاة الجمعة في مشهد يوم الجمعة: “لقد اغتالوا إبراهيم رئيسي، للأسف، بإيماءة مشينة، وفي كتاب نشروه مؤخرًا قاموا بتفصيل عملية اغتياله”.
وعلى الرغم من أن الرواية الرسمية لجمهورية إيران الإسلامية بشأن حادث تحطم مروحية إبراهيم رئيسي، الذي أودى بحياته ووزير خارجية حكومته حسين عبد اللهيان وعدد من المسؤولين الآخرين، تؤكد أن الحادث كان عرضيًا بالكامل ووقع في ظروف جوية سيئة، فإنها ليست المرة الأولى التي يصف فيها مسؤول في الجمهورية الإسلامية الحادثة بأنها “عملية اغتيال نفذها الموساد”.
وبعد فترة وجيزة من انتهاء المواجهة العسكرية التي استمرت 12 يومًا، قال عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني محمد الصدر، في مقابلة صحفية، إن إبراهيم رئيسي اغتيل على يد إسرائيل. وأضاف الصدر: “في اللحظة التي جرى فيها استهداف السيد رئيسي، ورغم تعدد النظريات المطروحة، قلت منذ البداية إن هذه مهمة إسرائيل، وهي التي وضعت أسسها”.
وعزا ادعاءه إلى أنه توصّل إلى ذلك من خلال اتصالاته مع حزب الله، موضحًا أن حزب الله وإسرائيل يعتمدان أسلوبًا يُعرف بـ”إرسال الرسائل إلى مسرح الأحداث”. وأضاف: “يعني ذلك أنهم كانوا ينفّذون عملية لفهم ما استخلصه الطرف الآخر منها، وعلى هذا الأساس جرى نقل الرسالة”.
وقال الصدر: “قلت في اليوم الذي تعرّض فيه السيد رئيسي للهجوم إن هذه مهمة إسرائيل، وإنها تحمل رسالة”.
وأضاف أنه لا يملك وثيقة تثبت هذا الادعاء، مشيرًا إلى أنه سيتناول القضية “من منظور تحليلي”.
ماذا يكشف كتاب “رائحة الموت”؟
يخصّص الفصل الأول من كتاب “رائحة الموت: دليل عمليات الموساد القاتلة داخل إيران”، للحديث عن تحطم المروحية ومقتل إبراهيم رئيسي. ويَرِد في أحد مقاطعه: “على الرغم من الرواية الرسمية، كانت هناك في أروقة الموساد الصامتة عملية حسابية أخرى تجري، فموت رئيس مستقر ليس مجرد صدفة، ومقتل إبراهيم رئيسي يحمل في طياته أثرًا خفيًا وغير محسوس تقريبًا لعمل نشط نُفّذ ببراعة. وقد صُمّمت العملية لتبدو وكأنها إرادة إلهية أو نتيجة حظ سيئ”.
وبحسب ما يورده الكتاب، قد يكون الموساد أمضى شهورًا، وربما سنوات، في تركيز مكثف على الدائرة الداخلية للنظام، مع امتلاكه معرفة مسبقة بنقاط ضعف الفريق الأمني للرئيس الإيراني، ووحدة الطيران، وآليات التخطيط اللوجستي.
وفقًا للكتاب، كان الموساد على علم بأن السيد رئيسي غالبًا ما كان يصرّ على تنفيذ الرحلات رغم سوء الأحوال الجوية، متجاوزًا البروتوكولات المعتمدة. ويورد أن “القضية الأساسية تمثّلت في إيجاد تلاقٍ بين الروتين المعتاد، والأصول الهشّة، والطقس العاصف. وقد وفّرت زيارة السيد رئيسي إلى الحدود بين إيران وأذربيجان لافتتاح السد فرصة مناسبة لذلك، فيما جرت رحلة العودة فوق منطقة وعرة ومرتفعة تُعرف بتقلّباتها المناخية السريعة، وهي ظروف شكّلت السياق الفريد لتنفيذ العملية”.
كيف تم تنفيذ العملية؟
يوضّح الكتاب أن التخريب المباشر على متن المروحية كان يُعدّ “استراتيجية عالية المخاطر ذات احتمال ضئيل للنجاح”، إذ إن المروحية كانت محمية، وأي تلاعب مادي بها كان سيترك آثارًا كفيلة بتبرير إعلان حرب وقد يفضي إلى ردّ انتقامي فوري.
وفي هذا السياق، يطرح الكتاب احتمال اللجوء إلى تصميم سيناريو طارئ لا يخلّف أدلة جنائية، مع استغلال نقاط الضعف النظامية بدل استخدام عبوة مادية. في المقابل، يلفت الكتاب إلى أنه لا يقدّم هذه الطروحات بوصفها وقائع مؤكدة، بل يكتفي بعرضها ضمن إطار من الاحتمالات والأساليب “المحتملة”.
ويطرح الكتاب احتمالين رئيسيين لآلية عمل الموساد. يقوم الأول على فرضية أن “جهة حكومية متقدمة للغاية قد تكون قادرة على التلاعب بالبرمجيات أو التدخل في سلسلة الصيانة والإمداد، بما يتيح تعطيل بيانات الملاحة بصورة غير محسوسة. وفي ظروف الرؤية المحدودة، يزيد هذا الاضطراب من خطر فقدان الحالة المكانية، ما قد يقود إلى تصادم متحكَّم فيه مع الأرض (CFIT)”.
أما الاحتمال الثاني، فيقوم على “الاعتماد على الحرب الإلكترونية لاستهداف أنظمة تحديد المواقع والاتصالات الخاصة بالمروحية، بطريقة تجعل الطاقم، وسط الضباب، يتلقى صورة غير دقيقة عن موقعه، بالتوازي مع تعطيل الاتصال الفعّال مع التحكم الأرضي، وهو ما يفضي إلى العزلة والارتباك في حالات الطوارئ”.
تعطيل منظومة الملاحة كمدخل للعملية
يشير الكتاب إلى أن مروحيات Bell 212، وهي الطراز نفسه الذي كان يستقله السيد رئيسي، تعتمد على منظومة معقّدة من أنظمة الملاحة الجوية الإلكترونية وأجهزة الاستشعار، ما يتيح، نظريًا، لجهة حكومية تنفيذ تدخل من خلال تصميم برنامج خبيث يُزرع مسبقًا داخل النظام ويبقى غير نشط إلى حين التشغيل.
وبحسب الطرح الوارد، يعمل هذا البرنامج بطريقة غير محسوسة، من دون التسبب بإيقاف مفاجئ للمحرّكات، بل يعطّل بيانات المستشعرات الأساسية بشكل “صامت”. ويعني ذلك أن مقياس الارتفاع، الضروري للملاحة في ظروف الرؤية المنخفضة، قد يزوّد الطيار ببيانات غير دقيقة، توحي بأن المروحية تحلّق على ارتفاع أعلى بنحو مئة متر من موقعها الفعلي، فيما يمكن لمؤشر الأفق الاصطناعي، الذي يبيّن وضعية المروحية قياسًا إلى سطح الأرض، أن ينحرف تدريجيًا بضع درجات، من دون أن يثير ذلك انتباه الطاقم فورًا.
وفي هذه الظروف، وعلى الرغم من أن المؤشرات داخل قمرة القيادة قد تبدو طبيعية، فإن الواقع يكون مختلفًا تمامًا عمّا تعكسه الأجهزة.
ويورد الكتاب أن “الطيار المتمرّس قد يلاحظ هذه الأخطاء في أجواء مستقرة ويعمل على تصحيحها، إلا أن الاضطرابات الجوية في المنطقة تجعل من بيانات المستشعرات المتناقضة عاملًا يولّد ارتباكًا مكانيًا بالغ الخطورة، بحيث يعتمد الطيارون على أدوات معيبة تقود المروحية مباشرة إلى الاصطدام بالأرض”.
الحرب الإلكترونية كأداة حسم
يذهب الكتاب إلى القول بأنه، وفق هذا السيناريو، كان بإمكان وحدة عمليات تابعة للموساد، انطلاقًا من موقع سري في أذربيجان أو عبر طائرة مسيّرة فوق بحر قزوين، نشر نظام لتشكيل إشارات نظام تحديد المواقع (GPS) ضمن نطاق تشغيلي. ولا تقوم هذه التقنية بقطع الإشارة، بل بتزييفها، من خلال بث إشارة GPS أقوى من الإشارة الأصلية التي تتلقاها المروحية، ما يؤدي تدريجيًا إلى انحرافها عن مسارها.
وبالتوازي، يطرح الكتاب احتمال استخدام نظام إلكتروني لاستهداف أنظمة الاتصالات الخاصة بالمروحية، عبر تعطيل الترددات المستخدمة للتواصل اللاسلكي مع التحكم الأرضي، بما يعزل المروحية ويمنع الطيارين من إرسال أو تلقي أي اتصال.
وفي هذه الحالة، يفترض الكتاب أن الطيارين كانوا سيجدون أنفسهم تائهين وسط الضباب، مع تعطل أنظمة الملاحة إلى جانب أجهزة الاتصال، ما يضعهم في عزلة كاملة ويجعل مصيرهم محتومًا.
البيئة كعامل حاسم في تنفيذ العملية
يذكر الكتاب أن العنصر الأخير في هذه العملية كان العامل البيئي. بحسب الطرح الوارد، كان بإمكان قسم الأرصاد الجوية في الموساد توفير توقعات دقيقة للدورة الزمنية والإطار المناسبين، مع استشراف حالة الاضطراب الجوي، بما يسمح بتوقيت التدخل الإلكتروني أو السيبراني ليتزامن مع هذه الرحلة تحديدًا.
ويقول الكتاب: “بعد وقوع الحادث مباشرة، لم تكن مهمة الموساد تحمّل المسؤولية، بل تعزيز رواية الحادث. فقد جرى تعميم تلميحات غير مباشرة عبر قنوات المعلومات ووسائل الإعلام المتحالفة، من خلال التركيز على تقادم أسطول المروحيات، ونقص قطع الغيار نتيجة العقوبات، وتردد الطيارين، والمخاطر التي تفرضها الحالة الجوية في المنطقة. وقد صُمّمت العملية لتُخفي نفسها”.
ويخلص الكتاب إلى أنه، في ظل هذه المعطيات، كانت أي تحقيقات إيرانية ستقود حتمًا إلى أدلة تتعلق بسوء صيانة المروحيات ورداءة الظروف الجوية، بوصفها العناصر الظاهرة الوحيدة، فيما تبقى الطبقات الخفية من التلاعب الرقمي أو الإلكتروني بعيدة عن متناول الرصد، حتى بالنسبة إلى المشككين الذين لم يتمكنوا، بحسب الكتاب، من الجزم بها أو إثباتها.













