بقلم: محمد نشبت مع يورونيوز
نشرت في
منذ الأسابيع الأولى لدخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مطلع أكتوبر الماضي، كان سكان غزة ينتظرون عودة إمدادات غاز الطهي تدريجيًا، باعتباره من أبرز الملفات التي تناولتها التفاهمات الإنسانية خلال المفاوضات. لكن الواقع جاء مخالفًا للتوقعات؛ إذ واصلت الإمدادات دخولها بكميات محدودة لا تقترب من الحدّ الأدنى للاحتياجات اليومية، مما دفع بالأزمة إلى التفاقم سريعًا، لتتحول خلال أسابيع إلى أحد أكثر المشاهد قسوة في حياة السكان.
ومع استمرار تعثّر الإمدادات، تعطّلت معظم محطات التعبئة، وانخفضت ساعات تشغيل القليل المتبقي منها، فيما وجد مئات آلاف النازحين أنفسهم عاجزين عن إعداد الطعام أو تسخين الماء، فلجؤوا إلى الحطب، وقطع البلاستيك، وبقايا الورق. وهكذا تحوّلت الأزمة من خلل في الخدمات إلى معضلة إنسانية تمسّ حياة السكان في كل تفاصيلها اليومية.
فجوة ضخمة بين الاحتياج والمتاح: أرقامٌ تكشف عمق الأزمة
وفق مكتب الإعلام الحكومي، يحتاج قطاع غزة في الظروف الطبيعية إلى ما بين 400 و500 طن من الغاز يوميًا لتلبية احتياجات السكان والمخابز والمطاعم والمستشفيات. لكنّ ما يدخل فعليًا منذ بدء الهدنة لا يتجاوز 120 إلى 150 طنًا في أفضل الأيام—أي أقل من ثلث الاحتياج الأساسي.
هذه الفجوة الهائلة لا تُراكم فقط العجز داخل المنازل ومحطات التعبئة، بل مهّد أيضًا لولادة سوق سوداء تتغذّى على الندرة، وتعيد تشكيل قيمة الغاز كسلعة نادرة، تُباع وتُخزَّن كما لو كانت دواءً لا يمكن التفريط به.
ويقول رئيس المكتب الحكومي، الدكتور إسماعيل الثوابتة، إن عدم التزام إسرائيل بإدخال الكميات المتفق عليها “أعاد القطاع إلى مربع الأزمة بالكامل”، موضحًا أن العمل في معبر كرم أبو سالم يسير بصورة غير منتظمة، وأن أي توقف للإمدادات، حتى ليوم واحد، ينعكس مباشرة على آلاف الأسر.
سوقٌ سوداء تتمدّد وأسعارٌ تتجاوز قدرة السكان
مع تراجع الإمدادات الرسمية إلى هذا المستوى، برزت شبكات صغيرة تعمل خارج القنوات الحكومية، مستفيدة من حالة الندرة. ووصل سعر الكيلو الواحد (وحدة القياس المعمول بها في الشرق الأوسط) في بعض المناطق إلى 120 شيقل (37 دولار أمريكي)، بينما تحولت الأسطوانة الكاملة إلى رفاهية قد تتجاوز 1400 شيقل (434 دولار أميركي).
ويشير السكان إلى أن غاز الطهي بات يُعامل “كدواء نادر”، وأن عمليات البيع تتم عبر وسطاء غير خاضعين للرقابة، مما أدى إلى تراجع ثقة الناس بآليات التوزيع الرسمية وتوسع السوق الموازية.
مسارات خفية داخل شبكة التوزيع: شهادات تكشف ما يجري
في ظل اتساع الأزمة، بدأت شهادات من داخل منظومة التوزيع نفسها تُظهر أن جزءًا من المشكلة لا يتعلق فقط بشحّ الإمدادات، بل بالمسار الذي تسلكه الكميات منذ لحظة دخولها القطاع.
يقول أحد الموزعين —متحدثًا بشرط عدم كشف هويته— إن “الحصص التي تصل إلى النقاط الرسمية تتغير دون تفسير واضح”، مضيفًا أن جزءًا من الشحنات “لا يصل إلى المستودعات الحكومية أصلًا، بل يُوجَّه مباشرة نحو تجار يبيعونه بأسعار مضاعفة”.
صاحب نقطة تعبئة في المنطقة الوسطى يذهب في الاتجاه نفسه، مشيرًا إلى أن نشاط السوق الموازية “منظّم أكثر مما يبدو”، وأن هناك أطرافًا تحصل على غاز الطهي بشكل ثابت رغم ندرة الإمدادات الرسمية، مما يجعل السعر في تلك القنوات يصل إلى 120 شيقل للكيلو.
عنصر أمن سابق شارك في مرافقة شاحنات الغاز يقدّم صورة أكثر تفصيلًا، إذ يقول إن “بعض العاملين كانوا يحصلون على أسطوانة أو اثنتين من كل حمولة خلال النقل، وهذه الأسطوانات تنتقل فورًا إلى السوق السوداء”. ويؤكد أن سعر الأسطوانة ارتفع من نحو 60–80 شيقل (18-24 دولار أمريكي) قبل الحرب إلى ما يزيد عن 1400 شيقل اليوم أي أكثر من 434 دولار.
هذه الشهادات، رغم تباين مصادرها، ترسم صورة واضحة لشبكة غير رسمية تتحرك على هامش السوق، وتستغل الفراغ الرقابي لتوسيع الفجوة بين السعر الرسمي والسعر المتداول.
السوق السوداء تلتهم الغاز المحدود.. وقودٌ بأضعاف الثمن
يُرجع الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب تفاقم الأزمة إلى ثلاثة عوامل أساسية: ندرة الإمدادات، غياب الرقابة الفاعلة، والارتفاع الكبير في الطلب الناتج عن النزوح الجماعي.
ويقول إن قلة الإمدادات قادت إلى “تشوّه اقتصادي كامل”، حيث تتسع السوق السوداء كلما تراجعت الكميات الرسمية، وتتضاعف الأسعار بما يتجاوز قدرة معظم العائلات.
ويؤكد أن استمرار الأزمة على هذا النحو يهدد بخلق تداعيات إضافية، مثل ارتفاع تكلفة الخبز وتعثر عمل المراكز التي تعتمد على الغاز في خدماتها الأساسية.
“نصف ساعة لكوب شاي”: شهادات النازحين تكشف تفاصيل المعاناة مع نار الحطب
أمجد القدرة، نازح من خان يونس إلى دير البلح، يقف أمام خيمته مشيرًا إلى كومة من الحطب جمعها بصعوبة منذ الصباح. يقول: “مشكلتنا الأساسية بدأت مع الحرب. كنّا قبلها نعيش أزمة، نعم، لكنها كانت محتملة. اليوم لا يدخل الغاز إلا نادرا ولكي أعد كوب شاي واحد أحتاج إلى نصف ساعة أمام النار. سعر الغاز في السوق وصل إلى أكثر من 100 شيقل للكيلو أي 31 دولار أمريكي، والأسطوانة لم تعد خيارًا ممكنًا. الغاز أساس البيت، ومن دونه لا نستطيع فعل أبسط الأشياء.”
وفي مركز إيواء قريب، يروي طارق باسم، النازح من مدينة غزة، كيف تحوّلت حياتهم إلى يوميات مع الدخان المتصاعد من كل ما هو قابل للاشتعال. يقول: “لا يوجد غاز منذ شهور. نحرق ما نستطيع: خشب، ورق، كرتون. حتى الحطب لم يعد متوفرًا. قبل الحرب كان سعر الأسطوانة 60 شيقل (18 دولار)، وكنا نحصل على دور كل شهرين أو ثلاثة. الآن نتمسك بأي كمية صغيرة كأنها علاج. لدينا أطفال يحتاجون إلى ماء ساخن وحليب، وهذا أصبح أصعب ما يمكن.”
أما أم توفيق، النازحة من رفح والمقيمة في مدرسة مهترئة، فتختزل معاناتها بكلمات قليلة: “النار أكلت عيوننا. الغاز يأتي لنا مرة كل ستة أو سبعة شهور، وأحيانًا لا نراه أبدًا. الخيمة لا فيها ماء ولا كهرباء، وأبحث عن ورق وبلاستيك لأننا لا نملك ثمن الحطب. آخر مرة عبّيت جرّة كانت قبل عشرة شهور. حدّثت اسمي مرات كثيرة، ولم يصلني الدور. ماذا نفعل؟”
أزمة مفتوحة ولا حلول في الأفق
في ظل غياب مؤشرات على انتظام إدخال غاز الطهي عبر المعابر، واستمرار تضرر البنية التشغيلية لمحطات التعبئة، تبدو الأزمة بعيدة عن الحل. الجهات المحلية، من جانبها، تشير إلى أن الطلب المتزايد الناجم عن النزوح لا يمكن تلبيته دون فتح مستقر للمعابر وزيادة الكميات الواردة.
وحتى ذلك الحين، يتكرر المشهد نفسه يوميًا: أسطوانات فارغة، طوابير طويلة، نار مشتعلة عند مدخل كل خيمة، وعائلات تحاول تدبير أبسط احتياجاتها وسط ظروف قاسية.
وبين شحّ الإمدادات وتمدّد السوق السوداء، تبقى أزمة الغاز إحدى أكثر الأزمات التي تكشف هشاشة الحياة في غزة بعد الحرب، وتجعل السكان أمام معركة يومية مفتوحة بلا أفق واضح للانفراج.













