نشرت في
•آخر تحديث
ربما كان تغيّر مواقف الفنانين السوريين، خاصة الممثلين منهم، مع سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر من العام الماضي، أسرع وأكثر إثارة من الهجوم الخاطف نفسه الذي شنته الفصائل المسلحة على دمشق، والذي أنهى معه أكثر من 50 عامًا من حكم آل الأسد في لحظة دراماتيكية لا تزال تداعياتها حاضرة وستبقى.
والحق يُقال، أننا كنّا أمام إعادة هيكلة للساحة الفنية، لم تكن لتخطر على بال أحد، ولو حتى في “أحلام العصر”: فنانون يعتذرون عن أخطاء الماضي، ويعلنون أنفسهم معارضين جُددا، وآخرون يهلّلون لـ”سقوط الأبد” في إشارة للأسد الذي طال أمده حتى كاد يكون أبديا. ومن الفنانين أيضا من التزم الصمت بشكل كامل، أو بلع لسانه حتى اتضاح المشهد، فيما حافظت قلّة على موقفها المؤيد لآل الأسد، مع أو دون حساب فاتورة العواقب.
غيْر أن المواقف التي تهافتت في ذلك اليوم، أو الساعات التي تلته لم تكن مجرّد بذور تُغرس في تربة تبدو لوهلةٍ خصبة، إذ سرعان ما تفرّعت جذورها لتتجاوز دمشق، وتصل إلى الرياض التي باتت عرّابة الدراما في الوطن العربي، ومعرّبتها..
وهناك، تحت أضواء حفل رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ قبل شهر، اكتسبت المفارقة كامل معناها: وشهدنا لقاء الأضداد.. اجتماعٌ يكاد يكون سرياليا، لنرى توبة الممثل دريد لحام الذي صحّح حبه القديم إلى كراهية معلنة للأسد. وشهدنا سوزان نجيم وهي تعترف بأنها كانت “مخدوعة” ببشار، وأيمن زيدان يطلب الصفح من شعبه. في المقابل، جاء الغيابُ الصاخب لنجومٍ لم يغيّروا مواقفهم – مثل الممثلة سلاف فواخرجي التي شُطبت أيضًا من سجلّ نقابة الفنانين السوريين – ليحوِّل حفل “لمّ الشمل” إلى إعلانٍ سياسيٍّ صريح يرسم حدود الولاء ويُشهر سيف الإقصاء في وجه من يغرّد خارج السرب.
كيف يُمكن تفسير التغيير في مواقف الفنانين؟
في حديثه مع “يورونيوز”، اعتبر الصحفي والناقد السوري وسام كنعان أن “التغير السريع في مواقف بعض الفنانين السوريين كان مبررًا ومنطقيًا ومشروعًا للحد الأقصى طالما أن هؤلاء النجوم كانوا يعيشون تحت سطوة أعتى آلة إجرام وقتل عرفها التاريخ”، وفق تعبيره.
وتابع كنعان بالقول إنه “لم يكن لهؤلاء الفنانين فرصة في السابق لكي يقولوا رأيهم الحقيقي، كما أن اللحظة كانت تستحق التأمل والتغيير في الموقف، وحتى من تماشى مع الوضع فهذا حقه وشأنه، لأن الفنان في النهاية مواطن عادي وإن كان يقع على عاتقه بعض المسؤوليات لكونه من النخب، لكن أعتقد أن أغلب تلك المواقف كانت صادقة”.
وعن السؤال حول إمكانية أن تستعيد الدراما السورية حضورها في عهد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، رأى كنعان أن الحرب التي استمرت طيلة 14 عامًا أتت و”أجهزت على الدراما السورية“، التي يشير إلى أنها “لم تكن ترقى إلى مستوى صناعة الدراما لأنها كانت تعتمد بشكل كبير على المال غير الوطني”.
وأكد المتحدث أن نظام الأسد كان يستغلّ الدراما لكي “يلمّع صورته، مما اضطر عددًا كبيرًا من الفنانين للسفر”، وأن الدراما “ستستعيد حضورها عندما تتاح لها المقوّمات اللازمة من مال وطني داعم وسوق العرض الذي ليس مرهونًا بمال أو سلطة، بل بإعادة هيكلة صناعة الدراما، وسقف الحرية المرتفع الذي بدا واضحًا من خلال هذا الموسم”.
وعمّا إذا كان يرى أن فئة من الفنانين السوريين تُعاقب لحفاظها على مواقفها الداعمة للأسد، قال كنعان إن هؤلاء “عددهم أقل من أصابع اليد الواحدة، وما يفعلونه هو إمعان في الإنكار واستفزاز لغالبية السوريين، لذلك ليس من المنطقي توجيه الدعوة لهم في أي مكان، لأن دعوتهم ستكون استفزازًا لأهالي المعتقلين والمفقودين والشهداء” الذين قضوا على يد نظام الأسد. وتابع أالمتحدث أن “أفضل ما يمكن فعله هو مقاطعتهم”، لأنهم وفق تعبيره “لا يمتلكون الحد الأدنى من النضج والوعي السياسي، ولا مراعاة الأدبيات التي لها علاقة بمسايرة الوجدان الجمعي لشعب مكلوم”.
وفي الحديث عن كيفية رؤيته مستقبل العلاقة بين الفنان والسلطة في سوريا الجديدة، وإذا ما كان يتوقع أن تختلف طبيعة هذه العلاقة جذريًا عمّا كانت عليه في عهد الأسد، أشار كنعان إلى أنه “لا يمكن للفنان أن يكون فنانًا إذا ما وقف بجانب السلطة”، على اعتبار أن “الفن وُجد ليرفع ضائقة الناس، لكي يوسع مداركهم ويفتح أفقهم على دلالات ومعاني وأماكن مترفة بالإشارات والتحولات والرموز، أما السلطة فوُجدت لكي تنجز حالة ضبط، وربما تذهب في بعض الأحيان إلى قمع الحريات، ومهمة الفنان هي الدفاع عن هذه الحريات، وبالضرورة يجب أن يكون الفنان في مواجهة السلطة حتى لو كانت في منتهى الديمقراطية، لكي يكون ضفّة مقابلة لها وليس بالضرورة معادية لها، حتى يسلّط الضوء على أخطائها ويزيد من مساحة الحرية وسقوف الرقابة”.
واختتم كنعان حديثه بالقول: “لا أعرف ما إذا كانت هذه السلطة بحاجة إلى أحد لتلميع صورتها، لكن ما أعرفه هو أنها لم تطلب من أي من الفنانين أي شيء، وربما يكون من المبكر جدًا أن نحكم، لكن هذا ما تبين خلال عام”.
وقد تواصلت “يورونيوز” مع عدد من النقّاد السوريين، المعروفين بمعارضتهم لحكم الشرع، طارحة الأسئلة ذاتها، إلا أن البعض امتنع عن التعليق، فيما عبّر آخرون عن عدم الرغبة بالحديث، أو نفوا “وجود معلومات لديهم” في هذا الملف.
كيف يمكن تفسير الموقف من منظور نفسي؟
يقول الأخصائي النفسي السوري، أنس الأصيل، في حديثه مع “يورونيوز” إن الإعلان عن سقوط النظام السوري في ديسمبر الماضي وهروب بشار الأسد شكّل صدمة للسوريين بمختلف توجّهاتهم: “تجلّت كفرحة عارمة لدى المعارضين، وحالة من الذهول ممزوجة بالخيبة لدى المؤيدين.”
ويشرح الأصيل أن “عنصر السرعة والصدمة في السقوط فوّت على المؤيدين القدرة على استيعاب اللحظة والوعي بها، وبناء موقف معاكس بطريقة تدريجية وناعمة”، معتبرًا أنه “لو استمرت المعركة بضعة أشهر مثلا، لكان تغيير الموقف بشكل أكثر سلاسة ممكنًا، لكن سرعة الحدث وضعت كثيرًا من المؤيدين أمام موقف حرج.”
ويضيف: “الإنسان بفطرته يسعى إلى تجنّب مشاعر الألم والخزي والعار بطرق شتى. ويختلف التعبير عن ذلك بحسب درجة وعي الفرد وشجاعته، وبحسب قدرته على المواجهة أو تفضيله الاستمرار في خداع نفسه لتجنّب الألم. لكن هذا الخداع، وإن وفّر راحة لحظية، ينعكس لاحقًا على شكل خزي مضاعف عندما يدرك الإنسان في أعماق نفسه أنه يناور ويتهرّب من الحقيقة.” وأشار الأخصائي إلى أن السوريين رأوا عند بعض الفنانين المرتبطين بالنظام السابق عجزًا عن الاعتراف، معتبرًا أن هؤلاء الفنانين كان “لدى بعضهم انحيازات تأكيدية، والبحث عن أدلة ومواقف لتبرير موقفهم القديم، وكأنهم يريدون تأكيد صوتٍ ما في أعماقهم يقول لهم: لقد كنت على حق إذ لم تكن معهم!” مؤكّدًا أن ما يحدث هو “حالة من الإنكار وليست موقفًا سياسيًا فقط، بل هو آلية دفاعية للتعامل مع مشاعر الألم الداخلي التي تتولد لإخفاء وخز الضمير.”
ويلفت الأصيل إلى أن البعض حاول تبرير موقفه، وهي “آلية دفاعية أخرى يحاول فيها الإنسان خلق أعذار لموقفه القديم في محاولة لتجنب المواجهة الذاتية المؤلمة والمكلفة نفسيًا”، مشيرًا إلى أن الفنان يحاول حينها أن يقدم نفسه كضحية، لا كرمز اجتماعي مسؤول، كأنه يريد أن يقول للناس: أنا ضحية مثلكم، لكن ضحية من نوع آخر.
أما الموقف الثالث، وفقًا للأصيل وهو الأندر، فهو الاعتراف الشجاع والمواجهة، وقد اتخذه فنانون قلائل عندما كتب أحدهم اعتذارًا للشعب السوري، موضحًا أنه كان أجبن من أن يتخذ موقفًا شجاعًا ضد الظلم كما فعلت شرائح كثيرة من السوريين.
ويختتم حديثه بالقول إن الناس لا تتقبّل التبريرات إلا في سياق الضرورة، وأن” ما حدث يقول لنا شيئًا مهمًا: إن مواقف الفنانين لم تكن دائمًا مقياسًا لقناعاتهم الحرة، بل كانت انعكاسًا مباشرًا لبيئة الخوف التي عاشوا فيها-الخوف من خسارة المكسب، الموقع الاجتماعي، أو الخوف من البطش-وللحاجة إلى النجاة واستعادة المكانة الاجتماعية، وبعضهم سعى لذلك بأي ثمن”.













