نشرت في
تشهد محافظة السويداء منذ أيام توترات أمنية متصاعدة، حيث طالت الاعتداءات والتصفيات الميدانية رموزًا دينية واجتماعية بارزة، ما أثار موجة من الغضب والاحتقان الشعبي، خصوصًا في أوساط الأقليات التي باتت ترى في ما يجري تهديدًا مباشرًا لوجودها.
هذه التطورات فتحت الباب أمام تدخل إسرائيلي مباشر، بذريعة حماية الدروز، وهو تدخل ينسجم مع الدعوات المتكررة في تل أبيب لفرض منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، ضمن مسعى أوسع لإعادة رسم خطوط النفوذ وتحقيق اختراق عسكري وسياسي على حساب سلطة دمشق.
ويبدو أن هذا التمدد الإسرائيلي ليس طارئًا، بل يأتي ضمن استراتيجية ممنهجة تستثمر في فراغ السلطة وتفكك السيطرة في الجنوب. وقد تجلى هذا المشهد في الغارات الأخيرة التي طالت مبنى هيئة الأركان السورية في ساحة الأمويين، أحد أكثر المواقع السيادية في العاصمة دمشق. استهداف يكشف عن مستوى العجز السياسي والعسكري للنظام الجديد.
انفتاح بلا تأثير
منذ لحظة وصوله إلى الرئاسة في 29 كانون الثاني/يناير 2025، حاول أحمد الشرع أن يُظهر نفسه بوصفه رجل انفتاح وعقلانية.
ركز في خطابه السياسي على إرسال رسائل تهدئة إلى إسرائيل، مؤكدًا أن سوريا “لن تكون منصة للاعتداء على أحد”، في ما بدا أنه تنازل استباقي لشراء بعض الوقت وتقليل مستوى العداء الإقليمي.
بالتوازي، باشر حملة أمنية ضد الفصائل الفلسطينية داخل سوريا، في محاولة لإثبات الجدية في فصل نفسه عن المواقف التقليدية للنظام السابق.
لكن الوقائع على الأرض أثبتت أن هذه الخطوات لم تُقنع تل أبيب، التي واصلت استهداف مواقع عسكرية وأمنية داخل سوريا بشكل منتظم، حتى بعد تنصيب الشرع رسميًا.
قنوات تواصل لا توقف القصف
في تموز/يوليو 2025، كشفت تقارير إسرائيلية أن لقاءات سرية جرت في أذربيجان بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، تناولت ملفات شديدة الحساسية، منها مطلب النظام بانسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب السوري، بالإضافة إلى ترتيبات أمنية تتعلق بالمراقبة وتبادل المعلومات.
رغم حساسية هذه اللقاءات، لم تنجح في تحقيق أي خرق فعلي. فالهجمات الإسرائيلية لم تتوقف، مما يعكس تصوّرًا راسخًا لدى الإسرائيليين بأن الشرع لا يمثل قوة يُحسب حسابها، بل هو رئيس في موقع ضعيف، مستعد لتقديم التنازلات دون القدرة على فرض شروط مقابلة. بعبارة أخرى، النظام يسعى إلى تسوية مع طرف لا يحتاج فعليًا للتفاوض، لأنه يملك اليد العليا عسكريًا وسياسيًا.
بالتوازي مع هذا الواقع، يحظى أحمد الشرع بدعم سياسي ملحوظ من تركيا وقطر، ويُضاف إليهما دعم عربي أوسع يشمل عدة عواصم تسعى إلى تقديم النظام الجديد باعتباره شريكًا مستقرًا يمكن التعويل عليه.
لكن هذا الدعم، مهما اتسعت دائرته، لا يتجاوز حدود التصريحات والمواقف الإعلامية، ولا يترجم إلى تحرك فاعل على مستوى وقف الضربات الإسرائيلية أو تحقيق توازن في التفاوض مع القوى الدولية.
تركيا وقطر، وهما أبرز الداعمين المباشرين، لا تملكان أدوات ضغط حقيقية على إسرائيل أو على واشنطن، كما أن بقية العواصم العربية تبدو غير معنية فعليًا بحماية النظام، بل تتعامل معه وفق مبدأ إدارة الأزمة وليس حلها. وهكذا، يجد الشرع نفسه مدعومًا شكليًا، لكن مكشوفًا فعليًا أمام التحديات الميدانية.
تفكك داخلي واحتقان شعبي
في الداخل، تبدو صورة النظام أكثر هشاشة. فالمؤسسات الحكومية تعاني شللًا فعليًا، والاقتصاد السوري في حالة انهيار شبه كامل، وسط غياب أي برامج إنقاذ جديّة أو خطط لإعادة الإعمار. الخدمات الأساسية، من كهرباء وماء وطبابة، وصلت إلى مستويات متدنية، فيما يعيش المواطن السوري في دوامة الغلاء وانعدام الأمل.
الاحتقان الشعبي يتصاعد، خاصة بين الأقليات التي دفعت ثمنًا باهظًا في الساحل السوري قبل أشهر، كما تعيش الآن هواجس حقيقية مع تكرار التجربة في السويداء. النظام بات غير قادر على طمأنة الأقليات ضمن مكونات الشعب السوري.
رغم الانفتاح العلني على واشنطن، لم يحقق النظام أي اختراق سياسي يُذكر. المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم برّاك، اكتفى قبل أيام بالإشادة بـ”الإنجازات المثيرة” للشرع، في تعبير يعكس لغة دبلوماسية خالية من أي التزام عملي.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فرغم لقائه بالشرع في الرياض في أيار/مايو 2025، وإشادته العلنية بـ”نهجه الجديد”، لم يقدم أي دعم فعلي على الأرض.
رئيس مكبّل
في ضوء المشهد العام، يتّضح أن أحمد الشرع يقود نظامًا لا يملك من أدوات الحكم سوى الشكل، في حين تتآكل مضامين السلطة من تحته.
الضربات الإسرائيلية المستمرة، رغم كل محاولات التهدئة والانفتاح، تثبت أن النظام فقد قوة الردع، بل وفقد حتى القدرة على الاحتجاج. وفي الداخل، تتكشّف ملامح الانهيار أكثر فأكثر.
الشرع، الذي راهن على دعم إقليمي ودولي لإنقاذ سلطته، يجد نفسه اليوم محاطًا بشركاء لا يملكون القدرة على حمايته، ويعتمد على قوات باتت جزءًا من المشكلة بدل أن تكون أداة للحل. لا انفتاحه السياسي أوقف الضربات، ولا حملاته الأمنية أوقفت النزيف الداخلي، ولا تحالفاته الخارجية منحت النظام أي مكسب حقيقي.
بهذا المعنى، يبدو أحمد الشرع رئيسًا مكبّلًا في لحظة تاريخية حرجة: عاجز عن ضبط الداخل، مرتهن لمعادلات خارجية، ومجرد واجهة لنظام مأزوم فقد هيبته، ويفقد كل يوم ما تبقى له من شرعية ووزن سياسي في مشهد إقليمي لا ينتظر أحدًا.