بقلم: يورونيوز
نشرت في
اعلان
كشفت صحيفة The Atlantic أن شخصيات بارزة في اليمين الأمريكي، من بينها مقدم البرامج الشهير تاكر كارلسون، بدأت تروج لروايات مثيرة للجدل حول الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك التشكيك في صورة أدولف هتلر كرمز للشر المطلق. هذه المحاولات ليست مجرد استفزازات عابرة، بل جزء من مشروع أوسع يهدف إلى إعادة تعريف فهم أمريكا لتاريخها ومعاداة السامية التي شكلت جزءًا من ماضيها.
إعادة تعريف الشرير: تشرشل أم هتلر؟
ففي سبتمبر الماضي، استضاف تاكر كارلسون شخصية وصفها بـ”أهم مؤرخ شعبي في الولايات المتحدة اليوم.” الضيف، داريل كوبر، لم يكن لديه سوى إطراء قليل لرئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب، وينستون تشرشل. ووفقًا لتقرير The Atlantic، اعتبر كوبر أن تشرشل قد يكون “الشرير الرئيسي في الحرب العالمية الثانية”، بينما قد تأتي ألمانيا النازية في المرتبة الثانية فقط على قائمة الشرور.
في اليوم التالي لبث الحلقة، استخدم داريل كوبر وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لتصريحات تقلل من خطط هتلر الإجرامية. زعم كوبر أن الزعيم الألماني كان يسعى لتحقيق السلام مع أوروبا، مدعياً أنه كان يهدف فقط إلى “الوصول إلى حل مقبول لمشكلة اليهود.” ولم يقدم أي تفسير يوضح لماذا اعتبر اليهود “مشكلة” في المقام الأول. هذا النوع من الخطاب، كما نقلت The Atlantic، يعكس محاولات لإعادة صياغة التاريخ عبر تقديم روايات مشوهة تنكر أو تهوّن من الفظائع النازية.
صعود الخطاب المعادي للسامية
ووفقًا لتقرير الصحيفة، فإن كارلسون وكوبر ليسا وحدهما في هذا النهج. المذيعة اليمينية المتطرفة كانديس أوينز، التي تظهر بشكل متكرر في برنامج كارلسون، أعربت عن وجهات نظر مشابهة. في يوليو 2024، قالت أوينز: “ما هو الشيء الخاص بهتلر؟ لماذا يُعتبر الأكثر شرًا؟” وأجابت بنفسها: “أول ما سيقوله الناس هو: ‘حسنًا، لقد كانت هناك عملية تطهير عرقي.’ وأرد عليهم الآن: ‘تقصد كما فعلنا بالفعل مع الألمان.'”
ودافعت أوينز عن فكرة أن تاريخ الحرب العالمية الثانية ليس واضحًا وصريحًا كما تم تعليمنا، مشيرة إلى أن بعض التفاصيل ربما تم حذفها عمداً من الكتب التعليمية. وكتب عبر منصة X: “يتعلم العديد من الأمريكيين اليوم أن هناك وجهات نظر أخرى تستحق الاستكشاف.”
شخصيات غير هامشية: من البودكاست إلى السياسة
وفقًا للتقرير، فإن الأفراد الذين يعملون على إعادة تأهيل نظام الرايخ الثالث ليسوا شخصيات هامشية أو غير مؤثرة. على العكس، يمتلك هؤلاء منصات قوية واسعة التأثير. فبرنامج تاكر كارلسون، على سبيل المثال، يُعد واحدًا من أعلى البودكاستات استماعًا في الولايات المتحدة، وقد ظهر كارلسون نفسه أمام الرئيس دونالد ترامب خلال المؤتمر الوطني الجمهوري لعام 2024. كما أن ابن كارلسون يشغل منصب نائب المتحدث الصحفي لنائب الرئيس جي دي فانس، الذي يدين جزئيًا مكانته السياسية لدعم كارلسون المستمر.
أما كانديس أوينز، فهي تتمتع بقاعدة جماهيرية ضخمة تضم ملايين المتابعين عبر منصات مثل يوتيوب وإنستغرام وX، وأجرت مقابلات مع شخصيات شهيرة مثل الكوميدي ثيو فون ومذيع ESPN ستيفن إيه سميث. وقد أثارت الجدل حتى خارج نطاق السياسة الأمريكية، حيث أصبحت موضوع دعوى قضائية رفعتها السيدة الأولى الفرنسية بريجيت ماكرون وزوجها الرئيس إيمانويل ماكرون بسبب ادعائها المتكرر بأن بريجيت ولدت ذكرًا.
في الوقت نفسه، تقول الصحيفة أن داريل كوبر، الذي يصف نفسه بأنه “مؤرخ شعبي”، يواصل تحقيق نجاح كبير بنشرته التاريخية التي تعد الأكثر مبيعًا على منصة Substack. ومن خلال هذه المنصات المؤثرة، يعمل هؤلاء الأفراد على نشر رواياتهم المثيرة للجدل حول الحرب العالمية الثانية ومعاداة السامية، مما يمنح أفكارهم وصولًا واسعًا إلى الجمهور.
دوافع إعادة التأهيل: لماذا الآن؟
وبحسب The Atlantic أن دفاع بعض الشخصيات اليمينية عن النازية يعكس، إلى حد كبير، محاولة لجذب الانتباه من خلال خرق أحد المحظورات الاجتماعية القليلة المتبقية. ومع ذلك، يتجاوز هذا التوجه مجرد استعراض استفزازي؛ إذ يمثل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة صياغة فهم التاريخ الأمريكي.
وأضافت، يركز تاكر كارلسون وحلفاؤه في أقصى اليمين على الحرب العالمية الثانية باعتبارها نقطة تحول رئيسية في تشكيل هوية الولايات المتحدة وعلاقتها بمواطنيها اليهود. فقد استخلصت الأمة دروسًا مؤلمة من الهولوكوست حول المخاطر الكارثية للتحيز والنظريات المؤامراتية. لكن اليوم، تعمل جماعات متزايدة النفوذ داخل اليمين الأمريكي على نشر روايات جديدة تسعى لإضعاف هذه الدروس وإعادة كتابة الماضي بما يتماشى مع أجندتها السياسية.
تاريخ معاداة السامية في الولايات المتحدة
كشفت The Atlantic أن قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة مكانًا أكثر معاداة للسامية مما هي عليه الآن. بعيدًا عن الانضمام إلى الصراع لإنقاذ يهود أوروبا، كانت البلاد في الغالب غير متعاطفة مع محنتهم. في عام 1938، وعلى أعتاب الهولوكوست، وجد استطلاع لمؤسسة غالوب أن 54٪ من الأمريكيين يعتقدون أن “اضطهاد اليهود في أوروبا كان جزئيًا نتيجة لخطأهم”، وأن 11٪ آخرين اعتقدوا أنه كان “بالكامل” خطأهم.
في نفس الأسبوع الذي انتهت فيه مذبحة كريستالنخت (ليلة الزجاج المكسور) بتدمير آلاف المعابد والشركات اليهودية، عارض 72٪ من الأمريكيين السماح “لعدد أكبر من اللاجئين اليهود القادمين من ألمانيا بالقدوم إلى الولايات المتحدة للعيش”. بعد أشهر، عارض 67٪ مشروع قانون يهدف إلى قبول الأطفال اللاجئين القادمين من ألمانيا؛ ولم يصل الاقتراح أبدًا إلى تصويت الكونغرس.
التحول بعد الهولوكوست
وأوضحت The Atlantic أن اللامبالاة تجاه الهولوكوست بدأت تتلاشى فورًا عندما حررت القوات الحليفة معسكرات النازيين، حيث قُتل ملايين اليهود. عند دخول الجنود الأمريكيين تلك المواقع الوحشية، واجهوا مشاهد لا يمكن نسيانها: أكوام الجثث العارية المتعفنة، غرف الغاز المصممة لإبادة البشر، والآلاف من الناجين الذين بدوا وكأنهم ظلال إنسانية منهكة.
وأضافت، لقد قُتل ثلثا يهود أوروبا في هذه الفظائع. ومع عودة الجنود الأمريكيين – الذين جُندوا من مختلف أنحاء البلاد – إلى ديارهم، حملوا معهم شهادات مباشرة عن ما رأوه. بهذه الطريقة، تعرّف الشعب الأمريكي للمرة الأولى على حجم الكارثة التي يمكن أن يسببها التعصب ضد اليهود.
تهديد جديد: فقدان الذاكرة الجماعية
وأشارت الصحيفة في تقريرها أن اليوم، بدأت تلك الدروس تتلاشى تدريجيًا – كما بدأ يختفي الأشخاص الذين عاشوا تلك التجارب وتعلموا منها مباشرة. في هذه الأثناء، برزت موجة جديدة من الدعاة الحاملين لأجندات مختلفة تمامًا، يعملون على ملء الفراغ الذي تركه غياب الجيل القديم. على مدار السنوات الأخيرة، لعب تاكر كارلسون وزملاؤه دورًا بارزًا في دمج أفكار معادية للسامية ضمن الخطاب العام.
وقالت، “لو حاول كارلسون وجماعته نشر مثل هذه الرؤى المثيرة للجدل قبل 20 عامًا، لواجهوا مقاومة شديدة من جيل عاش أحداث الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، وشاهد بأم عينه العواقب الكارثية لهذه الاتهامات المؤامراتية. لكن اليوم، ومع رحيل معظم هؤلاء الشهود، ظهر جيل جديد لم يشهد الهولوكوست بنفسه ولم يسمع عنه إلا عبر الروايات أو الوسائل التعليمية، مما جعل الطريق أكثر سهولة لنشر روايات مشوهة حول تلك الفترة الحرجة من التاريخ”.
السؤال الملح: إلى أي مدى سيذهب هذا التغيير؟
وقالت The Atlantic إنه في أواخر العام الماضي، قام ديفيد شور، أحد كبار علماء البيانات في الحزب الديمقراطي، بإجراء استطلاع شمل حوالي 130,000 ناخبًا لقياس آرائهم تجاه اليهود، حيث طُلب من المشاركين وصف موقفهم بأنه “إيجابي” أو “سلبي.” أظهرت النتائج أن الأجيال الأكبر سنًا، ممن تجاوزوا السبعين عامًا، بالكاد عبروا عن آراء سلبية. ومع ذلك، فإن أكثر من ربع الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا أعربوا عن آراء سلبية تجاه اليهود.
السؤال المطروح اليوم، وفقًا لـ The Atlantic، ليس ما إذا كانت صورة أمريكا لنفسها بدأت تتغير؛ فذلك التغيير أصبح واضحًا. السؤال الأهم هو: إلى أي مدى سيتوسع هذا التحول في الرأي العام؟ وما هي العواقب التي قد تنجم عن هذا التغير في كيفية إدراك المجتمع للسامية والهولوكوست؟.