شهدت السنوات الـ10 الأخيرة في العراق تحولا ملحوظا في نمط البناء السكني، حيث انتقل التركيز من المباني المنفردة والأفقية إلى المباني الشاهقة والعمودية، وهذا التحول، الذي يمثل تحولا جوهريا في ثقافة السكن العراقي، فرضته مجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها أزمة السكن المتفاقمة والضغوط السكانية المتزايدة.
ولطالما ارتبط السكن في الثقافة العراقية بالخصوصية والمساحة الفردية، إلا أن التحديات المعاصرة دفعت بالكثيرين إلى إعادة النظر في هذا النمط التقليدي، واقتناء شقق في المباني الشاهقة التي توفر بدائل جديدة للحياة السكنية.
وفي ظل هذه الأوضاع ظهرت فكرة المجمعات السكنية العمودية كحل مقترح لأزمة السكن المتفاقمة. إلا أن هذا التحول يواجه تحديات كبيرة بعضها ثقافي والآخر بيئي، فبينما تسعى الحكومة إلى حل أزمة السكن المتفاقمة من خلال تشجيع الاستثمار في المشاريع العقارية العمودية، فإن البنية التحتية المتآكلة ونقص التشريعات القانونية يشكلان عائقا كبيرا أمام تطوير هذا الهدف.
وأعلنت وزارة الإعمار والإسكان عن طريق المتحدث باسمها استبرق صباح، أنها أنجزت أكثر من 20 تصميما أساسيا لمدن سكنية مستدامة في عدد من المحافظات العراقية.
وفي يونيو/حزيران عام 2023، أقرّ رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إعلان فرص استثمارية لبناء مدن سكنية جديدة، وهي مدينة “الجواهري” بمنطقة أبو غريب في العاصمة، بغداد، و”ضفاف كربلاء” في محافظة كربلاء، و”الفلوجة الجديدة” في الأنبار، و”الجنائن” في بابل، و”الغزلاني” في نينوى.
تحدٍ ثقافي للأسرة العراقية
الباحث الاجتماعي ريسان عزيز، تحدث عن التحديات التي تواجه المجتمعات التي تلجأ إلى البناء العمودي، خاصة في المناطق ذات المساحات المحدودة، مشيرا إلى أن هذا النوع من البناء يوفر حلولا عملية لكثير من المشاكل، إلا أنه يطرح تحديات ثقافية واجتماعية كبيرة.
وركز ريسان في حديثه للجزيرة نت على التناقض بين الحاجة إلى الخصوصية في المجتمعات الشرقية ورغبة الأفراد في الحصول على حرية أكبر في الحركة داخل مساحاتهم الشخصية، مشيرا إلى أنه في البناء العمودي، تتقارب المسافات بين الشقق، مما يجعل الأصوات والحركات مسموعة بوضوح، وهذا الأمر يخلق صعوبات في الحفاظ على الخصوصية وتجنب الإزعاج للآخرين.
وأوضح أن الكثير من المجتمعات الغربية وضعت قوانين تنظيمية تحد من الضوضاء وتحدد أوقات الراحة، بينما لا تزال هذه الثقافة غائبة في الكثير من المجتمعات الشرقية، بما في ذلك العراق، مشيرا إلى فشل بعض المشاريع السكنية العمودية في العراق، بسبب عدم استعداد السكان لتغيير عاداتهم وتقاليدهم.
وشدد ريسان على أهمية التثقيف المجتمعي لتغيير السلوكيات وتبني ثقافة الاحترام المتبادل والاهتمام بحقوق الجيران، مشيرا إلى أن هذا الأمر يتطلب وقتا وجهدا، وأن اختيار السكان الذين يسكنون في هذه المجمعات يجب أن يكون مدروسا، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم الأسرة ونمط حياتها.
وختم الباحث حديثه بالتأكيد على الحاجة الملحة إلى حل أزمة السكن في العراق، مع الإشارة إلى أن البناء العمودي يمكن أن يكون حلا فعالا، شريطة أن يتم التعامل مع التحديات الثقافية والاجتماعية المرتبطة به بشكل جدي ومدروس.
عوامل حاسمة لنجاح البناء العمودي بالعراق
المهندس المعماري الدكتور بلال سمير، أكد أن نجاح مشاريع البناء العمودي يتوقف على مجموعة من العوامل الحاسمة. أول هذه العوامل هو توفر بنية تحتية متكاملة تشمل شبكات الطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحي، مما يضمن سير الحياة اليومية بسلاسة داخل هذه المجمعات السكنية.
وقال سمير في حديث للجزيرة نت: أما المعيار الثاني فهو التصميم الإنشائي، حيث يجب أن يخضع المشروع لدراسة جيولوجية دقيقة للتربة التي سيقام عليها، وتبعا لذلك يتم إجراء حسابات هندسية دقيقة لتحديد عدد الأعمدة وأبعادها وكمية حديد التسليح اللازمة لضمان استقرار المبنى وقدرته على تحمل الأحمال المختلفة.
ولأن البناء العمودي يهدف في المقام الأول إلى توفير سكن مناسب للإنسان، فقد شدد الدكتور سمير على أهمية دراسة السلوك الاجتماعي للمواطن العراقي وتفضيلاته في المسكن، فالمساحات الداخلية للوحدات السكنية، وعلاقاتها ببعضها البعض، يجب أن تتناسب مع العادات والتقاليد العراقية، وأن توفر الخصوصية والراحة اللازمة للأفراد والعائلات.
وفيما يتعلق بالاستدامة، أشار سمير إلى ضرورة مراعاة العوامل البيئية عند تصميم وتنفيذ مشاريع البناء العمودي، مثل توجيه المباني بشكل يحقق أقصى استفادة من أشعة الشمس والرياح، واستخدام مواد بناء عازلة للحرارة والصوت، وتبني حلول الطاقة المتجددة مثل الألواح الشمسية بما يسهم في تقليل استهلاك الطاقة وتقليل الأثر البيئي للمشروع.
التحدي الأكبر
الدكتور سمير أوضح أن التحدي الأكبر الذي يواجه مشاريع السكن العمودي في العراق يكمن في البنية التحتية، مبينا أنه يرجع إلى أن تصميم مدينة بغداد الأصلي كان يخدم نمط السكن الأفقي، حيث تم توفير الطرق والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي لتلبية احتياجات هذا النوع من البناء.
وتابع: ولكن مع تزايد الإقبال على مشاريع السكن العمودي وتشييدها في المساحات الفارغة داخل المدينة، بدأت تظهر ضغوطات كبيرة على البنية التحتية القائمة، مما أدى إلى تفاقم المشاكل الموجودة أصلا، مثل الازدحام المروري.
وأشار إلى أن مشكلة الازدحام المروري تعد مثالا واضحا على هذه التحديات، حيث ساهمت مشاريع السكن العمودي الجديدة في خلق عقد مرورية جديدة، مما زاد من حدة الازدحام الذي يعاني منه سكان بغداد أصلا.
وبالرغم من وجود هذا التحدي الكبير، أكد الدكتور سمير أن العراق يمتلك كوادر هندسية معمارية مؤهلة وقادرة على التعامل مع التحديات الأخرى المتعلقة بالتصميم الإنشائي والتصميم المعماري الوظيفي والجمالي.
الحاجة لأساس قانوني
الخبير الاقتصادي همام الشماع، أكد أن مفتاح تشجيع وتطوير البناء العمودي يكمن في إصدار تشريع قانوني واضح ومحدد ودائم يحفظ حقوق ملكية الشقق، مبينا أن هذا التشريع سيطمئن الناس على مستقبلهم ومستقبل ورثتهم، ويشجعهم على شراء الشقق كبديل عن المنازل الفردية.
وأوضح الشماع خلال حديثه للجزيرة نت، أن المشكلة تكمن في أن شراء شقة حاليا لا يضمن للمشتري معرفة حقوقه المستقبلية، خاصة أن الشقق لا ترتبط بمساحات أرضية مسجلة باسم المالكين.
وأضاف أن البناء العمودي يوفر العديد من المزايا، أهمها التوفير في تكاليف البنية التحتية كالكهرباء والماء والصرف الصحي، حيث يمكن إيصال هذه الخدمات إلى المبنى بشكل مركز، مما يقلل التكاليف بشكل كبير مقارنة بالبناء الأفقي الذي يتطلب مد هذه الخدمات لمسافات طويلة.
وتابع: كما يساهم البناء العمودي في تسهيل النقل الجماعي، حيث يمكن إنشاء مواصلات جماعية تربط المباني بالأسواق ومراكز العمل، مما يقلل الازدحام المروري ويحسن جودة الحياة، مشيرا إلى أن تكلفة شراء شقة في مبنى عمودي تكون أقل، وذلك لأن الأرض التي يبنى عليها المبنى تشترك فيها العديد من الشقق، مما يقلل من تكلفة الأرض لكل شقة.