غزة- بينما تُختزل أحلام الغزيين اليوم في الحصول على شربة ماء نظيفة، وتحصيل لقمة يقيمون بها صلبهم ويسدون بها قرقرة بطونهم الجائعة وحياة كريمة يحاربون ليظفروا بفتاتها، انصبّت عليهم الحمم الإسرائيلية في آن واحد من أقصى شمال القطاع إلى جنوبه، وامتدت إليهم يد الموت من جديد، لتعيدهم إلى مربع الحرب الأول الذي لا يزالون يترنّحون في محاولات الانعتاق منه والتخلص من ويلاته.
“تحارب إسرائيل ركاما وبقايا أرواح”، هكذا تصف المشهد المواطنة أم أحمد التي سدّت ثغرات غرفة بمنزلها المدمر في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة وعادت للعيش فيها مع أطفالها الثمانية، وتتساءل قائلة “هل سنعيش فظاعة أكبر من تلك التي عشناها؟ هل سنتجرع مرارة أقسى كالتي تجرعناها خلال عام ونصف من الإبادة؟”.
وتلك أسئلة يحفظ الغزيون إجاباتها ويطوّعونها لعلاج مخاوفهم، بعدما عادوا لعيش شعور الفقد الذي لم تهدأ قلوبهم منه بعد.
وتقول أم أحمد للجزيرة نت “لم يعد يرعبنا شيء، نحن مستنزفون لأقصى حد، لا شيء نأسف عليه أو نخسره، وسنقبل بقدر الله لنا”.
مرار الحرب
وتأخذ الحرب المستجدة شكلها القديم الذي يحفظه الغزيون، فشلال الدم لم يتوقف منذ صباح أمس “الدامي”، حيث ارتقى أكثر من 420 شهيدا ثلثاهم من النساء والأطفال، وأصيب قرابة 530 فلسطينيا، حسب وزارة الصحة الفلسطينية. وتعيد فصول النزوح نفسها، فقد أمرت إسرائيل سكان المناطق الحدودية بالإخلاء، وأجبرتهم تحت تهديد قوتها النارية على ترك بقايا منازلهم وخيامهم التي نصبوها فوق الركام.
تحمل أم خليل أبو طير من منطقة عبسان شرق خان يونس حقائبها وتجلس مع أطفالها على قارعة الطريق للبحث عن وجهة يذهبون إليها، وتقول للجزيرة نت “تساقط علينا رصاص الآليات وقذائف المدافع ونحن نيام، هل كتب علينا الشقاء للأبد؟”.
أما المواطنة تسنيم محمد التي تعيش في بيت حانون شمالي القطاع فتعلق على منشور الإخلاء الإسرائيلي الذي تمسكه بيديها قائلة “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، لو رموا علينا النووي لن نترك بيوتنا”.
وتضيف تسنيم التي عادت من جنوب القطاع لمنزلها بشماله قبل أسابيع للجزيرة نت “لقننا النزوح درسا يدفعنا لاستحالة تكراره، لن نتعاطى مع أوامرهم مهما كلفنا الأمر، فلا المناطق التي نزحنا إليها ولا الطرق المؤدية إليها كانت آمنة”.
ثقل المهمة
وأمام عودة مشاهد وداعات الشهداء والجثامين الملقاة على الأرض في زوايا المستشفى الأهلي العربي “المعمداني” بمدينة غزة، يعود الصحفيون لارتداء دروعهم وخوذاتهم، فلم يجد أنس الشريف مراسل قناة الجزيرة بُدّا من عودته للوقوف أمام الكاميرا لنقل هذه المشاهد “القاسية” التي لم يتعاف من رؤيتها بعد.
ويقول الشريف للجزيرة نت “تدفعنا هذه الأحداث للعيش بضغط نفسي هائل، فقلوبنا ما زالت مثقلة وجراحنا لم تلتئم بعد”، ورغم أن تغطيته الصحفية لم تتوقف منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، فإنها اليوم أضحت مضرجة بالدماء.
وفي الوقت الذي يرتدي فيه الشريف درعه الصحفي، يشعر زميله محمد شاهين مراسل قناة الجزيرة مباشر بصعوبة بالغة في ارتدائها، “لأن الدرع الثقيلة لها ثقل معنوي أقسى”، كما يقول للجزيرة نت.
ويضيف “الدرع تمثل لي ذاكرة سوداء، وتغطية دامية لحرب إبادة طالتنا جميعا، أتمنى أن تنتهي موجة التصعيد قبل أن أضطر إلى ارتدائها”، مؤكدا أنه وزملاءه لن يتركوا الميدان وسيستمرون بأداء واجبهم الصحفي وفضح جرائم الاحتلال حتى الرمق الأخير.

دوافع وهروب
تقول حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إن جرائم الاحتلال تؤكد استمراره بحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وكشفت الحركة على لسان حسام بدران عضو مكتبها السياسي أن سعي بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلي لتجاوز اتفاق وقف إطلاق النار كان واضحا منذ البداية، وأنه “كعادته يقدّم مصالحه السياسية ويحرص على الحفاظ على ائتلافه الحكومي”.
وقال بدران للجزيرة نت إن الاحتلال يتصرف “كعصابة من القتلة والإرهابيين”، ويضرب عرض الحائط الاتفاق الذي أيدته مختلف الدول إقليميا وعالميا، مؤكدا أهمية الالتزام بالاتفاق الموقع، وهو ما فعلته حركته من جهتها، لافتا إلى أن الاتصالات مع الوسطاء ومختلف الجهات لمواجهة هذا الاعتداء جارية على قدم وساق.
وعزا بدران تركيز الاحتلال على استهداف القيادات المدنية والحكومية لمحاولته إحداث فراغ في قطاع غزة، وجعله غير صالح للعيش لتطبيق مخططه لتهجير الناس منه والاستفراد به.
وهو ما أجمع عليه مراقبون رأوا أن نية الاحتلال المبيتة برغبته استئناف الحرب كانت مكشوفة منذ اللحظة الأولى لمنعه إدخال البيوت المتنقلة والمعدات الثقيلة، وتلكؤه بتنفيذ استحقاقات المرحلة الأولى.
ويقول علي أبو الحسن الكاتب والباحث فلسطيني للجزيرة نت “إن جولة التصعيد الجديدة جاءت للهروب من استحقاقات المرحلة الثانية التي تعني صفقة أسرى مقابل أسرى وإعادة إعمار، للعودة إلى سيناريو المرحلة الأولى؛ أسرى مقابل أسرى فقط”.
ويرى أبو الحسن أن الحرب هي ورقة سياسية بيد نتنياهو، يوظفها لمصلحة بقائه ولو على حساب أرواح الأبرياء، ويضيف “كانت تل أبيب على شفا الدخول بمظاهرات ضخمة ضده لإقالته قائد الشاباك، فقام بتصدير الأزمة إلى غزة لحرف الأنظار عنها”.
ويعتقد أبو الحسن أن ما حدث في غزة ليس بعيدا عن تواطؤ عربي فاضح، لوجود تقارير تكشف عن توجه جهات عربية رسمية إلى واشنطن لإفشال الخطة المصرية التي تم الإجماع عليها في قمة القاهرة، بحجة أن هذه الخطة تبقي للمقاومة هامشا في قطاع غزة.