في دلالة للتأثير التي باتت تشكله تركيا في السياسات الدولية والإقليمية، شهدت الانتخابات الرئاسية -التي انتهت بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان- اهتماما دوليا كبيرا، كما شكلت السياسة الخارجية عاملاً مهماً في توجهات الناخبين، نظراً لارتباطها بالعامل الأكثر تأثيراً في الانتخابات وهو الاقتصاد.
وعمدت المعارضة في دعايتها الانتخابية على مهاجمة السياسية الخارجية لأردوغان، وتوعدت في حال فوزها بإجراء تغييرات جذرية في هذه السياسة، منها التوجه إلى اتباع علاقات إيجابية مع الغرب، وانسحابات عسكرية من بعض الدول.
ونستطلع بهذا التقرير توجهات الرئيس أردوغان المرحلة المقبلة، وهل ستقع تغييرات على سياسته الخارجية وإلى أي اتجاه؟ وكيف سترسم خريطة تحالفات تركيا القادمة، خصوصا الشرق الأوسط؟
سياسية خارجية متشابكة
السنوات الأخيرة، عززت السياسة الخارجية لتركيا من حضورها الإقليمي بالمنطقة اعتماداً على العامل العسكري، إذ تتمتع بوجود عسكري في كل من سوريا وليبيا والعراق. كما تقدم خدمات واستشارات عسكرية بالعديد من الدول الأفريقية، بالإضافة لأذربيجان حيث ساهمت أنقرة في دعم الأخيرة في حربها مع أرمينيا وتحرير إقليم ناغورنو قره باغ.
كما تسببت العشرية الأخيرة بالمنطقة العربية في توتر علاقات تركيا مع دول رئيسية بالمنطقة، وخصوصاً السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، لكن العامين الماضيين شهدا شروع أردوغان في إعادة العلاقات مع كل من الرياض وأبوظبي وتل أبيب، كما فتح قنوات للحوار وكسر للجليد مع كل من القاهرة ودمشق. واعتبر ذلك قراءة تركية جديدة للمنطقة ما بعد سنوات الربيع العربي.
دولياً، أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية في تعزيز مكانة تركيا لدى الأطراف الدولية سواء في موسكو أو الدول الغربية الداعمة لكييف.
وكانت أنقرة قد انتهجت سياسة خاصة حيال الحرب الروسية والأوكرانية، استطاعت من خلالها الحفاظ على علاقتها مع موسكو مما أثار حفيظة الغرب الذي كان يأمل أن تتخذ تركيا موقفاً أكثر ميلاً لتوجهات حلف الناتو المناهض لروسيا، الأمر الذي زاد من تعقيد العلاقة مع الولايات المتحدة والتي تشهد توتراً مع حكومة أردوغان التي تتهم إدارة بايدن بدعم المليشيات الكردية المعادية لتركيا شمال سوريا.
مقاربة جديدة
اعتمدت السياسة الخارجية التركية -الآونة الأخيرة- على مقاربة جديدة للبيئة الدولية الإقليمية، تضمن جملة من العوامل والأهداف التي ما زالت قائمة.
وقامت المقاربة التركية الجديدة -في تحسين العلاقات مع دول الخليج العربي- على تقديم العامل الاقتصادي في السياسة الخارجية، سعياً لتخفيف الضغط الخارجي على تركيا واستعادة الأسواق العربية.
كما تهدف أنقرة في مقاربتها الجديدة إلى احتواء التطور بعلاقات دول شرق المتوسط مع خصمها التقليدي اليونان، حيث يهدف تقارب أنقرة مع تل أبيب والقاهرة لتعزيز الموقف التركي بمواجهة أثينا، كما تأمل تركيا فرض نفسها ممراً لصادرات الغاز الطبيعي، لما لذلك من تأثير اقتصادي وجيوسياسي.
سياسة 360 درجة
على الصعيد الدولي ووفقاً لرؤية أردوغان، فإن التوتر بالمنظومة الدولية -خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية- يمنح تركيا مساحة أكبر لخط سياسة أكثر استقلالاً، تمثل فيها أنقرة مركز ثقل بين الأطراف الدولية المتنافسة.
وفي تعليقه على سياسة بلاده حيال الحرب بأوكرانيا، قال إبراهيم كالين كبير المستشارين الأمنيين لأردوغان، إن تركيا “تحاول إدارة سياسة خارجية بزاوية 360 درجة” مضيفا “لا نريد تفضيل أي قضية أو فاعل أو منطقة أو بلد معين على آخر”.
وبهذا السياق، رفضت تركيا الانحياز إلى أي جانب في الحرب بأوكرانيا على عكس بقية أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقال أردوغان “لسنا بحاجة إلى طلب الإذن من أي شخص” وقد سمحت هذه السياسة لتركيا بلعب دور الوسيط في العديد من الملفات المتعلقة بحرب أوكرانيا على غرار اتفاق صادرات الحبوب، والتفاوض بشأن تبادل الأسرى.
ووفقا للمقاربة أعلاه، ومع فوز الرئيس أردوغان بفترة رئاسية جديدة، من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تغيير جذري في سياسة تركيا الخارجية.
وقد شدد أردوغان -في تصريحات قبيل الجولة الثانية- أن يعتزم الحفاظ على نفس السياسة في العلاقات مع روسيا ودول أخرى كما كان من قبل، مضيفا “لن أتحدى روسيا كما فعل حزب الشعب الجمهوري، وكنا على تواصل مع معها والولايات المتحدة والصين والغرب، وسأستمر على هذا النهج من الآن فصاعداً”.
في المقابل، من المحتمل أن تتوتر علاقات تركيا مع الغرب أكثر في حال تطوير علاقات تجارية واقتصادية أقوى مع موسكو.
تخفيف الضغوط
سيحافظ مسار تحسين العلاقات مع دول المنطقة على زخمه، وقد تشهد المرحلة المقبلة اختراقاً في علاقات تركيا مع مجموعة جديدة من دول المنطقة.
ونظراً لاستنزاف الملف السوري لأردوغان شعبياً، فقد بدأ هذا الرئيس فعلياً قبل أشهر مسيرة التطبيع مع دمشق، محدداً أهدافه بإعادة “طوعية” للاجئين ومحاربة “الإرهاب” وتطبيق الانتقال السياسي.
ولهذا الغرض، عقدت لقاءات استخبارية وعلى مستوى وزراء الدفاع والخارجية، ضمّت تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، وقد يسهم فوز أردوغان بدفع مسار التطبيع مع دمشق للأمام.
والأمر نفسه قد ينطبق على العلاقة مع مصر التي ستتعامل مع حقيقة بقاء الرئيس أردوغان في الحكم 5 سنوات مقبلة.
وتساعد نتائج الانتخابات التركية -سواء على صعيد البرلمان أو الرئاسة- على تخفيف ضغوط السياسة الداخلية على سياسة أردوغان الخارجية، مما يمنحه مساحة أوسع للمناورة في العلاقات مع دول المنطقة وحتى مع أوروبا والولايات المتحدة.
والأمر الذي كانت تركيا قد فقدته جزئياً الأشهر التي سبقت الانتخابات، بدا ذلك واضحاً، على سبيل المثال، في مفاوضاتها مع حلف الناتو لانضمام كل من السويد وفنلندا لعضوية الخلف.
كذلك ينطبق الأمر على مباحثات التطبيع مع سوريا والتي تأثرت كثيراً بالضغط الداخلي التي أثارته المعارضة التركية حيال وجود اللاجئين السوريين في البلاد.
المصلحة الوطنية
ليس من الصعب التنبؤ باستمرار جهود تركيا في اتباع سياسة متوازنة مع روسيا والصين، من خلال إعطاء الأولوية لمصالحها الوطنية بمواجهة الغرب، وللحفاظ على سياسة خاصة سمحت لها بلعب أدواراً أكثر استقلالية عن المقاربة الغربية.
وستساعد نتائج الانتخابات أيضًا في جذب المستثمرين الأجانب، لأنها تشير إلى الاستقرار السياسي المحلي للسنوات الخمس المقبلة.
ونظرًا لموقع تركيا الجيوسياسي والقضايا الإقليمية العديدة المشتبكة بها، ستحافظ تركيا على مكانة مهمة في السياسة الدولية لمختلف الأطراف.
والخلاصة أن أردوغان -مع تحقيقه فوزاً مريحاً- سيعمل على مواصلة مقاربته الحالية للسياسة الخارجية في ظل بيئة داخلية أكثر هدوءًا، وبيئة خارجية قد تحمل تحولات كبيرة أي وقت.