بعد التفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس في دمشق يوم 22 يونيو/حزيران الماضي وراح ضحيته أكثر من 25 مواطنا سوريا مسيحيا كشفت وزارة الداخلية السورية عن إلقاء القبض على خلية تتبع لتنظيم الدولة الإسلامية متورطة في الهجوم يرأسها عبد الإله الجميلي الذي ينحدر من منطقة الحجر الأسود بريف دمشق، ويعرف بأنه والي الصحراء لدى التنظيم.
وأعلنت الوزارة خلال مؤتمر صحفي أن الخلية كانت تخطط لهجوم ثان يستهدف مقام السيدة زينب في ريف دمشق، لكن تم إلقاء القبض على الانتحاري قبل التنفيذ، مما أعطى انطباعا بأن تنظيم الدولة لديه توجه لتنفيذ المزيد من العمليات في سوريا خلال الفترة المقبلة، وبالتالي قد لا يقتصر الأمر على تفجير الكنيسة، خاصة أنه سبقه هجوم على قوات حكومية في محافظتي حمص والسويداء.
انتقال التنظيم
وأفادت مصادر أمنية سورية للجزيرة نت بأن خلايا تنظيم الدولة اتخذت منذ مطلع العام الحالي قرارا بالانتقال من البادية السورية والانتشار في عموما المحافظات، خاصة في أرياف دير الزور وحمص وحلب ودمشق، لأنها وجدت في الفراغ الأمني الذي تعمل الحكومة السورية الحالية على ملئه فرصة من أجل تحسين وضعها في سوريا.
ويتيح هذا الانتشار في المدن لخلايا التنظيم ميزات عديدة، أهمها الابتعاد عن نطاق عمليات التحالف الدولي التي تركز بشكل رئيسي على البادية السورية، حيث يدعم الفرقة 80 في الجيش السوري التي تقوم بعمليات تمشيط مستمرة.
إضافة إلى أن الاقتراب أكثر من المناطق المأهولة يتيح عمليات الحشد والتعبئة، خاصة في ظل وجود شرائح شبابية باتت تعبر عن سخطها تجاه الحكومة السورية بسبب ما تصفه بالتساهل في ملاحقة فلول النظام السابق، وقد خرجت في يونيو/حزيران الماضي مظاهرات عدة في مدينة حماة تعبر عن غضبها من نهج الحكومة.
نشاط التنظيم ينطلق من سجون قسد
تضمّن إعلان وزارة الداخلية السورية القبض على الخلية التي نفذت تفجير مار إلياس تأكيدا بأن الخلية قدمت من مخيم الهول في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، والذي يضم المئات من عناصر انتسبوا سابقا إلى تنظيم الدولة مع عوائلهم.
ويخضع مخيم الهول لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تصر حتى اللحظة على الاحتفاظ بالسيطرة عليه رغم إبرام اتفاق أولي مع الحكومة السورية مطلع يونيو/حزيران 2025 بإشراف من قوات التحالف الدولي، ويتضمن نقل السيطرة على المخيم إلى الحكومة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تقبض فيها قوى الأمن السوري على خلايا لتنظيم الدولة قادمة من شمال شرق سوريا، فقد أشارت تسريبات صادرة عن وزارة الداخلية السورية إلى أن الخلية التي تم إلقاء القبض عليها في مدينة حلب في مايو/أيار الفائت أيضا قدمت من مناطق شمال شرق سوريا.
ومنذ مارس/آذار الماضي تشهد الحدود العراقية السورية استنفارا أمنيا نظرا للقلق العراقي من تسلل عناصر لتنظيم الدولة من مناطق شمال شرق سوريا مستفيدين من الفراغ الأمني.
ويبدو أن هذا ما يدفع الحكومة العراقية إلى الحرص على تطوير التنسيق الأمني مع دمشق، لذا أرسلت بغداد خلال الفترة الماضية شخصيات عدة إلى سوريا، أولها رئيس المخابرات حميد الشطري، ثم عزت الشابندر الذي تم تعيينه مبعوثا إلى سوريا.
كما تستمر مساعي العراق منذ مطلع عام 2025 لاستعادة مواطنيه المحتجزين في مخيم الهول المخصص لاعتقال عناصر تنظيم الدولة، وتشير التقديرات الرسمية العراقية إلى أن عدد المحتجزين العراقيين في المخيم يبلغ أكثر من 15 ألفا.
وبعيد سقوط بشار الأسد وتوالي التسريبات عن رغبة إدارة ترامب الأميركية بالانسحاب من سوريا حذرت “قسد” على لسان قائدها مظلوم عبدي بشكل صريح من عودة تنظيم الدولة، وهذا ما دفع ربما التحالف الدولي إلى رعاية تفاهم لنقل سيطرة السجون التي يُحتجز فيها عناصر سابقون من تنظيم الدولة إلى الحكومة السورية.
وكشفت مقابلات أجراها باحثون مع عناصر من تنظيم الدولة كانوا موقوفين سابقا في سجون قسد عن وجود تنسيق بين من هم داخل السجون وخارجها من الخلايا، حيث استعرض الباحث صبحي فرنجية نتائج هذه المقابلات في تحقيق نشره ضمن صحيفة المجلة التي أشارت إلى استغلال عناصر التنظيم فترة استقرارهم الطويلة في السجون الخاضعة لقسد لإجراء مراجعات على طريقة عملهم السابقة والتخطيط للمستقبل.
كما أفادت المقابلات بأن هدف تنظيم الدولة القادم هو الدولة السورية، لذا سيعمل على استقطاب العناصر المستاءة من انفتاح الحكومة السورية على الغرب، وأنه يعكف على وضع خطط لاختراق الدولة السورية.
وتفيد بعض الإحصائيات بأن “قسد” تدير قرابة 26 سجنا تحتجز فيها أكثر من 10 آلاف سجين، من بينهم جنسيات سورية وعراقية وعربية وأجنبية، ويتم احتجازهم ضمن ظروف سيئة تزيد حالة التطرف، ويتعرضون لتعذيب جسدي ونفسي.
كما أن بعض التقارير أشارت إلى وجود حالات فساد داخل السجن تتيح لعناصر التنظيم التواصل مع الخارج، إضافة إلى إمكانية تهريب بعض عناصره خارج السجون أيضا.
وبعد هجوم مار إلياس عادت الولايات المتحدة الأميركية إلى التأكيد على ضرورة أن تسيطر الحكومة السورية على مراكز احتجاز تنظيم الدولة.
توقعات لهجمات جديدة
تتوقع العديد من المؤسسات البحثية السورية والدولية حصول هجمات جديدة بعد تفجيرات مار إلياس، وأنها لن تكون الأخيرة.
ورجحت دراسة صدرت عن مركز جسور للدراسات في أعقاب تنفيذ الهجوم على كنيسة مار إلياس حصول هجمات جديدة، واستندت الدراسة إلى ممارسات تنظيم الدولة سابقا في العراق، حيث نفذ 30 هجوما في يوم واحد عام 2012 طالت كنائس ودور عبادة.
ورأت الدراسة أن هدف التنظيم زعزعة حالة الاستقرار التي تسعى الحكومة السورية إلى إرسائها، وأنه يريد نسف كل الخطوات التي قامت بها في إطار الحفاظ على السلم الأهلي وضبط الأمن، وبالتالي دفع الفئات المجتمعية إلى الإحجام عن مشاركة السلطة في بناء الدولة بعد إفقادهم الثقة بها.
ومن الملاحظ أن التهديدات الرسمية التي صدرت ضمن صحيفة التنظيم أواخر مايو/أيار 2025 ضد الحكومة السورية تزامنت مع انخراط سوريا ضمن غرفة عمليات إقليمية تضم تركيا والأردن ولبنان والعراق، إضافة إلى التسريبات الأميركية التي تؤكد وجود تنسيق بين واشنطن والحكومة السورية لمنع تنظيم الدولة، مما قد يفسر زيادة حنق تنظيم الدولة على الحكومة ورغبته بضرب جهودها ومنعها من استكمال جهود تشكيل المؤسسات الأمنية التي ستستهدف منع عودة التنظيم.
“تبادل المعلومات لا يعكس تأييدًا كاملًا لهيئة تحرير الشام”.. واشنطن بوست عن مسؤولين أمريكيين: نشارك الحكومة السورية الجديدة معلومات استخبارية بشأن تهديدات #تنظيم_الدولة pic.twitter.com/n1dhaDc4uc
— الجزيرة سوريا (@AJSyriaNowN) January 25, 2025
تحذيرات من مرحلة إعادة صياغة الإستراتيجية
حذرت مجموعة سايت إنتليجنس المتخصصة في الشؤون الأمنية ومراقبة نشاط المتطرفين من خطر قراءة تراجع نشاط تنظيم الدولة في سوريا على أنه علامة ضعف، بل رجحت أنه دخل في مرحلة إعادة صياغة الإستراتيجية.
وبحسب بيانات المجموعة، فإن عمليات التنظيم خلال النصف الأول من عام 2025 بلغت ثلث عملياته فقط خلال الفترة ذاتها من العام الذي سبقه.
ونقلت المجموعة عن مسؤولين أمنيين تأكيدات أن تنظيم الدولة بدأ منذ سقوط الأسد أواخر عام 2024 بتنشيط خلايا نائمة تستخدم أسلحة مزودة بكاتم صوت وبعض المتفجرات، وتعكف حاليا على تحديد أهدافها، مع ترجيح أنها استولت على بعض الأسلحة التي كانت بحوزة قوات الأسد سابقا.
وتشكل التوترات الطائفية التي تحصل في سوريا من حين إلى آخر -على غرار أحداث الساحل التي حصلت في مارس/آذار من العام الجاري على خلفية هجوم لفلول النظام السابق على قوات حكومية- إضافة إلى المرونة التي تبديها الحكومة السورية تجاه مختلف المكونات عاملين مهمين من الممكن أن يساعدا تنظيم الدولة على التحرك من جديد في سوريا.
وقد سعى التنظيم إلى توظيف العاملين في خطاباته الجديدة التي استهدفت الحكومة السورية بشكل واضح واتهمتها بعدم تطبيق الشريعة.
بالمقابل، من المحتمل أن يصطدم تنظيم الدولة بعوائق في سياق محاولته تجديد نشاطه في سوريا، ومنها حالة الإنهاك التي أصابت المجتمع السوري، والرغبة الكبيرة التي تظهر في الأوساط السورية باستعادة الاستقرار والشروع في عملية إعادة البناء.