قالت لونوفيل أوبسرفاتور (لوبس) إن مفهوم “القدر المعلن” برز في الرأي العام الأميركي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو فكرة تقوم على أن البلاد يجب أن تتوسع، لأن العناية الإلهية اختارتها لذلك.
وربطت المجلة الفرنسية -في تقرير بقلم سيلفان كوراج- بين هذا المفهوم وخطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم 20 يناير/كانون الثاني 2025، واعدا “بعصر ذهبي” جديد.
وأضافت أنه قال بالحرف “ستعود أميركا أمة نامية، تزيد ثروتها، وتوسع أراضيها، وتشيد مدنها، وتعلي من سقف طموحاتها، وتحمل رايتها إلى أراض جديدة وجميلة. سنسعى وراء قدرنا المعلن إلى النجوم، ونرسل رواد فضاء لغرس النشيد الوطني الأميركي على كوكب المريخ”.
وبذلك أعاد ترامب وسط تصفيق حار إحياء فكرة “القدر المعلن”، وهي فكرة ولدت في منتصف القرن التاسع عشر، مفادها أن للولايات المتحدة حقا إلهيا في توسيع أراضيها عبر قارة أميركا الشمالية، بل أبعد من ذلك بكثير.
وفي خضم ترحيل الهنود، وضم مساحات شاسعة من المكسيك، وغزو الغرب الأميركي في أربعينيات القرن التاسع عشر، احتاج الاتحاد الناشئ إلى تبرير توسعه الهائل، من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، يقول المؤرخ آلان كراوت “إنه اعتقاد، في لحظة معينة من التاريخ الأميركي، بأن الله أراد لهذا البلد أن يتوسع من ساحل إلى آخر”.
وقد كان لفكرة “القدر المعلن” تأثير دائم على تصور القوة العالمية الرائدة لدورها العالمي، إذ يرى المؤرخ وليام إيرل ويكس أن هذه الفكرة تكمن وراء “فرضية الفضيلة الأخلاقية الفريدة للولايات المتحدة، وتأكيد رسالتها في خلاص العالم من خلال نشر الحكم الجمهوري، وبشكل أعم “أسلوب الحياة الأميركي”.
قدرنا المعلن هو أن ننتشر في القارة التي أوكلتها العناية الإلهية للتنمية الحرة لشعبنا المتزايد
وظهرت هذه العبارة أول مرة في يوليو/تموز 1845 في المجلة الشهرية “مجلة الولايات المتحدة والمراجعة الديمقراطية”، التي كتبها الصحفي جون ل. أوسوليفان، وهو صحفي مقرب من الحزب الديمقراطي في ذلك الوقت، ومؤيد متحمس لضم جمهورية تكساس، وكتب أن “قدرنا المعلن هو أن ننتشر في القارة التي أوكلتها العناية الإلهية للتنمية الحرة لشعبنا المتزايد”.
وكان أوسوليفان من أشد المؤيدين “للديمقراطية الجاكسونية”، نسبة إلى الرئيس السابع للولايات المتحدة أندرو جاكسون (1829-1837) الذي كان بطلا في حرب الاستقلال، وكان سياسيا جنوبيا شعبويا وندد بالنخب السياسية والاقتصادية، وواجهه سياسيون ليبراليون مناهضون للعبودية ومدافعون عن مؤتمر حزب الأحرار.
التوسع غربا
وعلى الرغم من ديمقراطيته، أيد جاكسون نظام العبودية، إذ كان يملك 150 عبدا، وواصل إبادة الأميركيين الأصليين الذين حاربهم بشراسة في تينيسي، وأقر قانون ترحيل الهنود عام 1830، وهو قانون يأمر بترحيل “القبائل المتحضرة” إلى ما وراء نهر المسيسيبي، مما جعل قبيلة الشيروكي تسلك “درب الدموع” الذي يعني للرواد بداية الفتح العظيم للغرب ووعدا بمستقبل مشرق.
وبدعوته إلى “القدر المعلن”، قدم أوسوليفان إطارا أيديولوجيا لهذه القفزة الحتمية، ودعا إلى الاستيلاء على إقليم أوريغون، وكتب “يستند هذا الادعاء إلى حقنا المقدر في التوسع وامتلاك القارة بأكملها، فقد منحتنا إياه العناية الإلهية لتطوير التجربة العظيمة في الحرية والحكم الذاتي الفدرالي الموكلة إلينا”.

واستولت الولايات المتحدة على ولايات يوتا ونيفادا وأريزونا ونيو مكسيكو وكاليفورنيا، وسارع 300 ألف مغامر من جميع أنحاء العالم للبحث عن الذهب، وأشادت الصحافة والأدب الشعبي بأسطورة “الغرب المتوحش” التي ألهمت أفلام هوليود الغربية بعد أقل من قرن.
ولكن سرعان ما تبددت أوهام “القدر المعلن” منذ خمسينيات القرن التاسع عشر -كما تقول المجلة- وركز النقاش السياسي على السؤال المحير: هل ستكون الولايات الغربية الجديدة مؤيدة للعبودية؟ وبلغ التوتر ذروته، لينتهي إلى تمرد الجنوب الكونفدرالي ضد الاتحاديين في الشمال، فبدأت الحرب الأهلية (1861-1865)، ودافع أوسوليفان على الجانب الخاسر عن مالكي العبيد، ومات منسيا عام 1895.
ما الذي يمكن أن يعنيه استخدام هذه الأيديولوجية لترامب، الذي لم يذكر “القدر المعلن” خلال ولايته الأولى، إلا إذا كان يبرر نهمه الإقليمي لقناة بنما وغرينلاند وكندا
تبرير لنهم إقليمي
وكانت هذه نهاية “القدر المعلن” الذي حلله المؤرخ ريجينالد هورسمان باعتباره مظهرا من مظاهر “العنصرية الأنجلوساكسونية في القرن التاسع عشر”، وكان الرئيس الجمهوري وليام ماكينلي (1897-1901) آخر من طبقها حرفيا، باسم المصالح البحرية والتجارية الجديدة، فضم هاواي وسيطر على أراض مثل الفلبين وغوام وبورتوريكو، ومعه تحول التوسع الإقليمي إلى سياسة نفوذ واستحواذ خارجي، معلنا بذلك انضمام الولايات المتحدة إلى صفوف القوى الإمبريالية العالمية.
وبعد الحرب العالمية الأولى، أكد الرئيس وودرو ويلسون أن بلاده تتمتع بامتياز “احترام مصيرها وإنقاذ العالم”، وفي خمسينيات القرن الماضي برر هاري ترومان واجب الولايات المتحدة في الدفاع عن الحرية والديمقراطية ضد التهديد السوفياتي، وفي عام 2003 استحضر جورج بوش الابن مهمة شبه إلهية لإضفاء الشرعية على الحرب في العراق.
وختمت المجلة بالسؤال: ما الذي يمكن أن يعنيه استخدام هذه الأيديولوجية لترامب الذي لم يذكر “القدر المعلن” خلال ولايته الأولى، إلا إذا كان يبرر نهمه الإقليمي لقناة بنما وغرينلاند وكندا، مستحضرا عقدة تفوق مقلقة للغاية تعود إلى 180 عاما.