منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تجاوزت آلة الحرب حدود الاستهداف العسكري إلى تدمير مُمنهج لمؤسسات الرعاية الصحية، في مشهد يعيد تعريف “العدوان” ليشمل كل ما هو حي وممكن للنجاة.
ولم يعد الموت في غزة نتيجة مباشرة للقصف وحده، بل هو كذلك ثمرة لانعدام الدواء، أو انقطاع الكهرباء عن حضّانة، أو تأخر سيارة إسعاف بسبب قرار عسكري.
وبينما يُقصف الجرحى في أسِرّتهم، ويُعتقل الأطباء من ممرات الطوارئ، وتُمنع قوافل العلاج عند حدود موصدة، تتكشف في غزة معالم جريمة لا يُراد لها أن تكون مرئية: جريمة قتل ممنهج للصحة، والحياة ذاتها.
كارثة طويلة الأمد
وهذه المأساة لا تقف عند الحاضر، بل تحمل آثارا طويلة الأمد تهدد مستقبل القطاع عقودا، ومع خطر تفشي أمراض قاتلة مثل الكوليرا والحصبة وشلل الأطفال، ومع فقدان الكوادر الصحية المدربة التي كانت عمادَ النظام الصحي، بات من الواضح أن ما تدمّر لا يمكن تعويضه بسهولة، وأن النظام الصحي في غزة يحتاج إلى خطة إنقاذ تمتد عشرات السنين لإعادة بنائه وتأهيله.
وبعيدا عن لغة الأرقام، يمكن رصد الكارثة من شهادات من تبقّى من الطواقم الطبية في المستشفيات، حيث لا ماء ولا تخدير ولا ضوء، يتخذ الطبيب قراره الأصعب: من يُنقَذ ومن يُترك لحتفه.

وهذا المشهد، الذي لا يلتقطه الإعلام دائما، هو الوجه الأكثر قسوة للعدوان، وهو أن تُحمَّل ضحية أخرى مسؤولية اختيار الموت بين مرضى لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا على هذا الشاطئ المحاصر.

وتتعدى الكارثة البُنى التحتية، لتطال فكرة “الرعاية” ذاتها، وتتحوّل المستشفيات، من مساحات للشفاء، إلى أهداف عسكرية، تُقصَف وتُقتحم ويُختطف من فيها.

ولم تكن الحماية التي توفرها اتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة أكثر من حبر على ورق، وقد فشلت المؤسسات الدولية في ضمان الحد الأدنى من الأمان للمرافق الطبية، بينما اكتفت بيانات الإدانة بالصيغ المكرّرة، دون أن تترجم إلى خطوات لحماية الحق في العلاج.
واستهداف المرافق الطبية جريمة حرب موثقة بموجب القانون الدولي الإنساني، لكن صمت العالم أمام هذه الانتهاكات المتكررة يعكس تواطؤا خطِرا.

وغياب التحقيقات الدولية الجادة، وعدم تفعيل أدوات العدالة الدولية، يعمّق شعور الضحايا بأن الجرائم في غزة تُرتكب بلا عقاب.
ولم تفعل محكمة الجنايات الدولية، التي يفترض أنها الذراع القضائية لردع الجرائم ضد الإنسانية، شيئا أكثر من التعبير عن “القلق”.

ما العمل؟
لا يحتاج القطاع اليوم فقط إلى مساعدة إنسانية، بل إلى اعتراف صريح بأن ما يجري هو انهيار قيمي عالمي، تُساق فيه حياة الناس رهينة للعبة السياسة وموازين القوة.

ولهذا، لا بد من خطة إنقاذ عاجلة، قبل فوات الأوان، تقوم على أربعة محاور:
- الضغط الدولي: وقف الحرب وفتح المعابر فورا، وتفعيل قرارات مجلس الأمن، وتحرك فعلي من الأمم المتحدة والجامعة العربية.
- الإغاثة الصحية داخل غزة: تشمل توزيع أدوية منقذة للحياة، وتقديم دعم نفسي وتدريب الطواقم المتبقية، وصيانة المنشآت الطبية الطارئة بما تبقّى من قدرات.
- التحضير الإغاثي خارج غزة: عبر تجهيز مخازن إغاثة عاجلة في المناطق المجاورة، وتشكيل فرق طبية جاهزة للإدخال، ووضع خطط لإجلاء طبي منسق في الحالات الطارئة.
- خطة إعادة الإعمار الصحي: لا تقتصر على إعادة بناء المستشفيات، بل تمتد إلى تشمل تدريب الكوادر، واعتماد بنية رقمية مقاومة للأزمات تُتيح العمل في بيئات الحرب والدمار.

ويتطلب ما دُمّر في القطاع، سنوات من العمل الدؤوب لترميمه، كما أن إعادة بناء المستشفيات لن تعيد ما فُقد من كفاءات بشرية نادرة، ولا تمحو الأثر النفسي العميق الذي زرعه هذا الخراب في نفوس الناجين.
ولذلك فإن الحل لا يكمن فقط في إرسال المعدات أو بناء الجدران، بل في ضمان ألا تتكرر هذه الكارثة مرة أخرى.

وهذا يضع مسؤولية أخلاقية وقانونية على عاتق المجتمع الدولي، تتمثل في حماية المنشآت الصحية بموجب القانون الإنساني، ودعم نظام صحي مستدام، والمساءلة الفعلية لكل من تورّط في تدميره.
وفي ظل حرب تستهدف كل مقومات البقاء، فإن الدفاع عن حق الفلسطيني في العلاج، هو دفاع عن إنسانيّة العالم بأسره.

والنتيجة اليوم كارثة صحية غير مسبوقة، وحرمان مليوني إنسان من الحق في العلاج هو جريمة ممنهجة، ويكشف أن الصمت الدولي ليس مجرد تقصير، بل تواطؤ فعلي.

“الصحة حق إنساني، لا امتيازا” – هكذا قالت المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
و”الحق في الصحة ليس رفاهية، بل الحد الأدنى من الحياة”، كما كتبت طبيبة فلسطينية على جدار غرفة طوارئ مدمّرة في مستشفى شمال غزة.
ولعل هاتين العبارتين تختصران كل ما يحاول هذا المقال قوله.