غزة- فزع الشاب محمد المدهون الذي كان منشغلا بمراقبة أرغفة الخبز تحت النار المشتعلة في فرنه الصغير، فور إشاعة خبر بين سكان المنطقة بأن ضابطا إسرائيليا اتصل بجاره وطلب منه إخلاء العمارة السكنية التي يقطنها في مدينة غزة تمهيدا لقصفها بعد 15 دقيقة فقط.
على عجل وفي حالة من التوتر والإرباك حاول الشاب إخراج أبنائه وزوجته من داخل البناية، والهروب بفرنه من أسفل العمارة المهددة بالقصف والذي يشكل مصدر رزقه الوحيد هذه الأيام.
في هذه الدقائق الخطرة انشغل طفل جائع بلملمة أرغفته “الثمينة” التي كان ينتظر خبزها “على أحرّ من الجمر” بعدما نجح والده في توفيرها رغم ثمنها المرتفع بعد أيام من الانقطاع.
خبز مفقود
اتخذ “الخباز”، الذي يعيل 5 من الأبناء، من الخبز على الحطب داخل الحي الذي يقطنه غربي مدينة غزة مهنة مستجدة له خلال الأشهر الأخيرة التي انقطع فيه غاز الطهو بعدما أغلقت إسرائيل معابر قطاع غزة مطلع مارس/آذار الماضي.
يقول المدهون في حديث للجزيرة نت “الحرب دفعتنا إلى البحث عن بدائل لتوفير قوت أطفالنا، رغم أن هذه المهنة لا توفر إلا القليل من المتطلبات اليومية في ظل الارتفاع الهائل بالأسعار”.
يشتكي الشاب الحال الصعب الذي وصل إليه كبقية سكان قطاع غزة، وكيف استبدل مشواره الصباحي اليومي قبل الحرب إلى المدرسة التي يعمل بها معلما للتربية الدينية، ولقاءه بطلبته، باستيقاظه مبكرا لإشعال النار استعدادا لبدء يوم شاق من الجلوس أمام اللهب في الأجواء الحارة.
تبدلت أحوال المدهون الذي فقد منزله خلال الحرب وأكثر من 20 كيلوغراما من وزنه، وتركت النار سوادا على جبينه الذي ينقط عرقا، وهو يخبز الأرغفة القليلة التي أحضرها إليه صغار وكبار لسدّ جوعهم.
وبرزت في غزة الكثير من المهن الموسمية المرتبطة بالحرب ولم تكن معتادة قبلها، على غرار استخدام أفران صغيرة للخبز باستخدام الأخشاب مقابل مادي بسيط وذلك بعد نفاد الوقود وغاز الطهو من جميع منازل قطاع غزة.
وبدت أزمة شحّ الدقيق في غزة واضحة لدى الخباز مع تراجع أعداد المترددين عليه، وتقلّصت عدد الأرغفة التي يحملونها لأكثر من النصف بعد تقنين الأسر استخدام الطحين الباهظ الثمن.
ولجأ الغزيون إلى خطط طوارئ خاصة بتوفير الدقيق على حد قول المدهون، بدأت بخلطه بالمعكرونة أو العدس بعد طحنهما، وذلك بهدف زيادة عدد الأرغفة مقابل استخدام طحين أقل.
ومع ارتفاع أسعار الطحين الذي وصل سعر الكيلو الواحد منه في بعض الأوقات إلى 150 شيكلا (45 دولارا أميركيا) بات المترددون عليه يوميا يُعدّون على أصابع اليد الواحدة بأرغفة محدودة جدا بالكاد تكفي لوجبة واحدة فقط.
خباز مجوّع
يُعد المدهون شاهدا يوميا على معاناة الفلسطينيين في غزة، ويروي قصصا مؤلمة خلّفها التجويع في أجساد الصغار، وجعلته يشتكي مما يراه من بؤس في أعين المترددين عليه يوميا.
في كل صباح يتوقف أطفال لا يتجاوزون السادسة من أعمارهم أمام الفرن، يطلبون رغيفا من الخبز، فيشعر الخباز وأصحاب الخبز بالحرج الشديد لعدم تمكّنهم من تلبية طلبات الصغار المجوّعين لأن الأسر الغزية لجأت إلى توزيع الأرغفة المتاحة على عدد أفراد الأسرة، وبالكاد يحصل الشخص الواحد على رغيف فقط طوال اليوم، كما يقول.
ووصل ضيق الحال لعدم مقدرة كثير ممن يترددون على الخباز على دفع الأجر الذي يحصل عليه مقابل خَبز العجين، ويؤجلونه لأيام قادمة، فيزيد ذلك من عجزه عن توفير الحد الأدنى من متطلبات أسرته اليومية.
يشعر المدهون بالقهر عندما يقلب الخبز على النار ومن حوله أطفاله الذين يساعدونه في تكسير الأخشاب وإشعال النار، ولا يتمكن من توفير الخبز يوميا لهم. ويقول “حالي كحال الجميع الذين لا يستطيعون توفير الطحين يوميا، لكن ما يؤلم أن الخبز يتقلب بين يدي على مرأى من أطفالي الجوعى الذين يشتهون قطعة منه في بعض الأحيان”.
يقترح صغار المدهون عليه بأن يحصل على رغيف واحد أو اثنين من الزبائن المترددين عليه بدلا من أجرته، حتى يتمكن من توفيرها لهم، وهو ما لا يمكن فعله في هذه الأيام التي أصبح الرغيف فيها عزيزا.
يشمّ الخباز رائحة الخبز، وأحيانا يكون قد غلبه الجوع لساعات طويلة، ومع ذلك لا يتمكن من طلب قطعة منه من أصحابه، لأنه يعلم أنهم وفروا الطحين بشق الأنفس، وربما بعد أيام طويلة قضوها من دونه.
يتساءل الخباز: “منذ متى كان أهل غزة يشتهون رغيف الخبز؟ الحرب طحنت كل شيء حتى أغلق الكرام على أنفسهم الأبواب وهم يتضورون جوعا منعا لسؤال الناس”.

باع أثاثه لشراء الطحين
“تخيل أن بعض الأسر التي كانت تخبز في العادة ما يزيد على 20 رغيفا يوميا اقتصرت فقط على 3 أو 4 أرغفة خصصتها لأبنائها الصغار فقط، بينما يبقى كبار السن بلا طعام طوال اليوم”، كما يقول الخباز الذي يحتفظ بذاكرته بمشاهد لا يمكنه أن ينساها.
وفي أحد الأيام مر طفل صغير يحمل رغيفا فقط، طالبا منه خبزه، وعلم أن والديه وفرا دقيقا يكفي لرغيف واحد فقط لطفلهم حتى يفطر به، وهو ما لم يتمكنوا من توفيره لبقية أفراد الأسرة.
المشهد الأقسى الذي يرويه المدهون عندما عرض عليه جاره شراء أبواب خزانته الخشبية، لاستخدامها في إشعال الفرن، نظرا لأنه لا يملك المال لشراء دقيق لأبنائه، ثم اضطر إلى التخلّي عن جزء من أثاث بيته مقابل أن يسد جوع أطفاله لو ليوم واحد فقط.
وتفشى الجوع في قطاع غزة بعدما منعت إسرائيل إدخال المواد الغذائية إلى قطاع غزة منذ مطلع مارس/آذار الماضي، ومنعت وصول الدقيق إلى أكثر من مليوني فلسطيني في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى أكثر من 500 ألف كيس أسبوعيا.