ولكن مؤسسة “راند” تُولي اهتمامها الأساسي والأوسع للملفات الأمنية والاستراتيجية، بما فيها تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، حيث تهدف إلى تحفيز صانعي السياسات على التفكير في التأثيرات المحتملة لتطوير الذكاء الاصطناعي العام على الجغرافيا السياسية والنظام العالمي، وذلك بتسليط الضوء على سيناريوهات مستقبلية محتملة لحوكمة الذكاء وتأثيره على ديناميات القوة العالمية.
وعليه يُشرِف مايتر بصفته مدير برنامج المخاطر العالمية والناشئة في “راند” على مجموعة دراسات مهتمة بالذكاء الاصطناعي، حيث تركز دراسات البرنامج على قضايا التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي عبر الذكاء الاصطناعي بواسطة خصوم الولايات المتحدة.
كما تشتغل الوحدة على مسألة حوكمة الذكاء الاصطناعي وكيفية جعل أنظمته المستقبلية أكثر أمانا، وهي تُعنى بفهم ومعالجة سيناريوهات فقدان التحكم في الذكاء الاصطناعي وتحديد علامات التحذير من القدرات التي ربما تُقوّض التحكم البشري في النماذج المتقدمة للذكاء الاصطناعي. وهنا تأتي ورقة جيم مايتر القيّمة حول “السباق الحقيقي للذكاء الاصطناعي” في سياق المنافسة بين أميركا والصين.
وقد حاولنا عبر الحوار طرح أسئلة جدلية لم تقتصر على الاستفسار، بل حاولت مجادلة المحاور، وهو ما دفع النقاش إلى مسارات تحليلية أوسع مرتبطة بخطورة الذكاء الاصطناعي العام في المجالات العسكرية والأمنية.
وقد استهل الحوار بالتمييز بين الذكاء الاصطناعي التقليدي الذي يحل مشاكل محددة، وبين الذكاء الاصطناعي العام الذي يمتلك قدرات معرفية واسعة النطاق قد تتجاوز البشر. وأشار مايتر إلى أن مُطوِّري التكنولوجيا يعتقدون أننا نقترب من هذه العتبة، وأن خطورة الذكاء الاصطناعي العام تكمُن في قدرته على حل مشاكل قد لا يتوقعها المطورون أنفسهم، مما يُمكّنه من تغيير شكل المجتمعات والحروب.
ثم انتقل الحوار إلى دور الذكاء الاصطناعي الأمني والعسكري، إذ أكد مايتر أنه يستطيع تسريع عملية جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية واتخاذ القرارات الاستراتيجية بسرعة تفوق البشر. وأشار إلى إمكانية استخدامه في الأنظمة المستقلة، وتحسين الخدمات اللوجستية، وتطوير الدفاعات السيبرانية، وخلُص إلى أن الأمة التي تدمج الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر فعالية في جهاز أمنها القومي ستحقق ميزة عسكرية حاسمة.
وقد اتخذ الحوار طابعا جدليا عند مناقشة التحديات التي تواجه النموذج الأميركي، حيث أشار مايتر إلى أن النظام المفتوح الذي يقوده القطاع الخاص في الولايات المتحدة -رغم تعزيزه للابتكار- عُرضة للتجسس، ويسمح لمنافسين مثل الصين بسد الفجوة التكنولوجية بسرعة. وجاءت المجادلة عندما طُرِح تساؤل حول التناقض بين المصالح التجارية للشركات الكبرى وأولويات الأمن القومي، مع الإشارة إلى أن الصين لم تعد تُقلّد التكنولوجيا فحسب، بل باتت قادرة على الابتكار. وتصاعدت المجادلة عند مواجهة مايتر بمفارقة صارخة: كيف تبرر الولايات المتحدة تصدير تقنياتها إلى أنظمة استبدادية قد تستخدمها في القمع، بينما تروّج لنموذجها الديمقراطي؟
وركز الحوار أيضا على المخاطر الأوسع للذكاء الاصطناعي، خاصة مفهوم “السباق نحو القاع”، وهو تنافس محموم قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على نماذج الذكاء الاصطناعي، وخلق نتائج غير متوافقة مع النوايا البشرية. وتطرَّق مايتر إلى مفهوم “الحرب الخوارزمية” التي تعتمد على سرعة وتعقيد الخوارزميات، لا على الأسلحة التقليدية، مما يمنح الدولة التي تمتلك خوارزميات متفوقة ميزة كبيرة وحاسمة في أي صراع مستقبلي. وأكد الحوار أن الذكاء الاصطناعي ربما يتعارض في جوهره مع الديمقراطية لكونه أداة سهلة للتلاعب بها. وهذا نص الحوار:
- ذكرت أن هناك فرقا بين سباق الذكاء الاصطناعي وسباق الذكاء الاصطناعي العام. هل يمكنك أن تشرح لنا المزيد؟ وما خطورة امتلاك الذكاء الاصطناعي العام؟
مايتر: أود في البداية أن أعرب عن جزيل الشكر لاستضافتي، وإنه من دواعي سروري المشاركة معكم في هذا الحوار. بخصوص الذكاء الاصطناعي هو في جوهره موضوع واسع يشمل مجموعة متنوعة من الأساليب التي تعمل من خلالها التقنيات الاصطناعية كشكل من أشكال الإدراك. لكن التمييز الأهم يكمن بين الذكاء الاصطناعي التقليدي والذكاء الاصطناعي العام.
يعتقد مُطوِّرو نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدما اليوم أننا نقترب من عتبة تُمكّن النماذج من توفير قدرات معرفية واسعة النطاق عبر عدد من المهام، تضاهي مستوى الخبراء من البشر، وتصل إلى حد الذكاء الخارق. هذا هو تعريف الذكاء الاصطناعي العام.
بطريقة أخرى، يمكننا القول إن معظم نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية تُصنف على أنها ذكاء اصطناعي ضيق، بمعنى أنها تُركز على حل مشاكل محددة. أما الذكاء الاصطناعي العام فهو ببساطة قدرة معرفية خام يُمكنها حل مجموعة واسعة من المشاكل، وغالبا ما لا يعرف مُطوِّرو التكنولوجيا حتى المشاكل التي يمكن أن تحلها هذه النماذج إلا بعد إطلاقها.
- في سياق التنافس الأمني والعسكري بين الدول، كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي من مفهوم التفوق العسكري التقليدي؟ وما هي أبرز القدرات التحويلية التي يقدمها للدول فيما يتعلق بأمنها القومي؟
مايتر: يُعد الذكاء الاصطناعي “تقنية تحويلية” في مجال الأمن القومي، إذ هناك مجموعة واسعة من القدرات التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي المتقدم، منها أن يوفر للمشاركين جمع المعلومات الاستخبارية ومعالجتها، والقدرة على القيام بذلك بسرعات تفوق سرعة البشر، واستخلاص رؤى لم يكن البشر ليتمكنوا من استخلاصها. كما يمكنه تسريع اتخاذ القرارات القائمة على البيانات، بحيث يتمكن أطراف الصراع من التفكير بسرعة أكبر -وربما بذكاء أكبر- فيما يجب عليهم فعله مقارنة بخصومهم.
كما يمكن استخدامه لتحسين الخدمات اللوجستية وعمليات الأعمال الأخرى، ودمجه من أجل عمل أكثر تطورا للمسيّرات والأنظمة المستقلة في الحرب. وليس هذا فحسب، بل هناك احتمال أن يؤدي الذكاء الاصطناعي المتقدم أو العام إلى تطوير سلاح خارق يُشكل ميزة عسكرية حاسمة لدولة واحدة مقارنة بأخرى. واحتمالية حدوث ذلك غير معروفة، وربما منخفضة جدا، لكن لا يمكننا استبعادها.
ويمكن أن تكون هذه القدرة، على سبيل المثال، سلاحا إلكترونيا مُهما يَشل البنية التحتية الحيوية للخصم، أو يُستخدم دفاعيا لجعل الشعوب مُحصَّنة ضد الهجمات الإلكترونية. ولكن النقطة الرئيسية هنا في سؤالك هي أن الدول التي تدمج الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر فعالية في جهاز أمنها القومي ستُحقق ميزة عسكرية حاسمة، بغض النظر عمن يحقق تقدما طفيفا على الآخرين في تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي الرائد التالي.
- ذكرت في مقالتك في “فورين أفيرز” أن الولايات المتحدة لا تزال رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن لديها مشاكلها الخاصة في هذا المجال. هل يمكنك شرح المزيد حول المشاكل والتحديات التي تواجهها واشنطن؟
مايتر: يتميز النظام المتبع في الولايات المتحدة لتطوير التكنولوجيا بالعديد من المزايا، لكنه لا يخلو أيضا من بعض نقاط الضعف. ففي الولايات المتحدة، يتسم نظام الابتكار بالانفتاح، فهو لا يقتصر على الجهات الحكومية، بل يزدهر بالأساس في القطاع الخاص. ويمنح هذا النهج القطاعَ الخاص قدرة فائقة على الابتكار، ويجعله جاذبا للمواهب العالمية، كما أن التنافسية المتأصلة فيه تعزز تطوير الأفكار الرائدة والتطور التكنولوجي.
مع ذلك، ينطوي هذا الانفتاح في نظامنا على عدد من نقاط الضعف، إذ يجعله عُرضة للتجسس، كما يُسهم في الانتشار السريع للتطورات الخوارزمية، وهو ما ناقشناه في بعض أبحاثنا في “راند”. وهذا يعني أنه عندما تُحقِّق شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية طفرة تكنولوجية، فإن هناك خطرا كبيرا من أن يتمكن منافسون مثل الشركات الصينية من سد الفجوة بسرعة. ويحدث هذا إما عن طريق سرقة الملكية الفكرية، أو -ببساطة- بمراقبة واستنساخ التطورات المنشورة علنا أو المتاحة تجاريا.
وقد شهدنا بالفعل حدوث ذلك، فشركات الذكاء الاصطناعي الصينية الرائدة مثل “ديب سيك” تُطوّر تقنيات لا تتخلّف إلا بأشهر قليلة عن نظيراتها الأميركية. هذه الدينامية تجعل من الصعب جدا على الولايات المتحدة الحفاظ على تقدُّم دائم قائم على التطور التكنولوجي وحده. هناك تحديات أخرى تواجه نظامنا، تتجاوز مجرد تطوير التكنولوجيا، ويمكنني مناقشتها أيضا، ولكن دعني أعرف أولا ما الذي قد يكون مفيدا لك.
- لقد أشرت إلى نقطة بالغة الأهمية حول العلاقة بين شركات التكنولوجيا الكبرى والحكومة الأميركية. إذا كانت الصين تتمتع بميزة تنافسية بفضل سيطرة الدولة على السوق، فهل يمكن القول إن الولايات المتحدة تشهد حالة عكسية، حيث أصبح سوق التكنولوجيا هو من يسيطر على الأجندة الحكومية، لا سيما في مجال الأمن القومي والذكاء الاصطناعي؟ وكيف يؤثر هذا التناقض بين المصالح التجارية والسياسات الاستراتيجية على قدرة أميركا على المنافسة؟
مايتر: أتفق معك تماما، نظامنا يحمل في طياته ميزة وعيبا. وتتمثل الميزة في استقلالية الشركات عن الحكومة، بما يمنحها قدرة فائقة على الحركة والسرعة، ويجعلها مختبرات حقيقية لتطوير التكنولوجيا الرائدة. ولكن تكمن التحديات في أن القطاع الخاص تحفزه بالدرجة الأولى المكاسب التجارية، وهو ما لا يتوافق دائما مع أولويات الأمن القومي الأميركي.
على سبيل المثال، تنجذب شركات الذكاء الاصطناعي إلى بناء قدرات حوسبة ضخمة ونماذج رائدة حيث تتوفر الطاقة وبيئة تنظيمية مواتية، بغض النظر عن موقعها؛ سواء كان ذلك في الولايات المتحدة أو في بلد آخر قد يكون الأمن فيه أكثر تساهلا.
في مقالنا بمجلة “فورين أفيرز”، أشرنا إلى أن أول تجمع بسعة 5 غيغاوات لمراكز البيانات في العالم سيُبنى خارج الولايات المتحدة. صحيح أن هذه الخطوة تُسهّل تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي الأميركية المتطورة، وصحيح أيضا أن الشركات الأميركية ستتمتع ببعض السيطرة على كيفية استخدامها، إلا أن ذلك يخلق مخاطر جديدة.
فهناك احتمال لوجود أبواب خلفية للمنافسين مثل الصينيين، تُمكّنهم من الوصول إلى التكنولوجيا، أو استخدام تلك البنية التحتية للحوسبة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم. إنه تحدٍ حقيقي؛ هناك تباين بين المنطق التجاري الذي يحرك الشركات وبين مصالح الأمن القومي، وهذا ما يجب على الحكومة التعامل معه وتحديد كيفية إدارته.
- لقد أثرتَ نقطة هامة بشأن التحديات الأمنية الناجمة عن تصدير مراكز البيانات الكبيرة وما قد يمثله من خطر وصول التقنيات الأميركية إلى الصين. ولكن هل يمكن للولايات المتحدة أن تظل تنظر إلى الصين على أنها مجرد مقلّد للتكنولوجيا، بينما تشير دراسات مثل كتاب “الذكاء الاصطناعي.. القوة العظمى” لكاي-فو لي، إلى أنها تجاوزت هذه المرحلة وصارت قادرة على الابتكار؟ وهل يؤدي سوء تقدير واشنطن لقدرات منافسها إلى هزيمتها في سباق الذكاء الاصطناعي؟
مايتر: أتفق تماما مع هذا الطرح؛ لا ينبغي أن نتفاجأ من أن الباحثين والعلماء الصينيين في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى عالمي، ومن ثمَّ فإن الميزة التي تتمتع بها الولايات المتحدة على الصين لا تكمُن في المواهب بالأساس. صحيح أن لدينا ميزة في قدرتنا على جذب المواهب من جميع أنحاء العالم، وهي ميزة نسعى للحفاظ عليها. لكن، الطلاب المتخرجون من أرقى الجامعات في الصين يَبدون بالكفاءة نفسها مقارنة بنظرائهم من أفضل الجامعات الأميركية، مما يعني أن الفجوة في المواهب لم تعد كبيرة كما كانت في السابق.
لا يوجد أيضا تمايز واضح في جوانب أخرى أساسية لتطوير الذكاء الاصطناعي، مثل البيانات، التي لم يثبُت بعدُ أنها عامل حاسم. لفترة من الوقت، وحتى أثناء فترة صدور كتاب كاي-فو لي، كان هناك شعور بأن الصين قد تتمتع بميزة كبيرة في البيانات مقارنة بالولايات المتحدة، نظرا لجمعها المزيد من البيانات عن شعبها. ولكن يبدو أن هذا لم يعد عاملا مميزا رئيسيا، على الأقل حتى الآن.
يبدو أن العامل المميز الكبير يكمن في قوة الحوسبة المتقدمة، وهذا هو المجال الذي تُظهر فيه ضوابط التصدير الأميركية فائدة حقيقية. إذا نظرنا إلى التصريحات الصادرة عن مطوّري نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة في الصين، مثل الرئيس التنفيذي لشركة “ديب سيك”، فإن جلّ اهتمامهم ينصبّ على مدى قدرتهم على الوصول إلى قوة حوسبة متقدمة كافية لبناء نماذجهم. وتعد هذه هي الميزة الملموسة الوحيدة التي تتمتع بها الولايات المتحدة حاليا مقارنة بالصين، والتي تُمكّنها من البقاء متقدمة بخطوة أو اثنتين فيما يتعلق بتوجه نماذج الذكاء الاصطناعي.
- في مقالك بمجلة “فورين أفيرز”، وصفتَ النموذج الأميركي للذكاء الاصطناعي بأنه ديمقراطي ومنفتح، على عكس النموذج الصيني الشمولي. ولكن، ألا توجد مفارقة صارخة هنا؟ فمن جهة، تروّج واشنطن لقيم الديمقراطية، ومن جهة أخرى، تُسهّل حصول أنظمة استبدادية على هذه التكنولوجيا التي قد تُستخدم في السيطرة والقمع. كيف يمكن للولايات المتحدة أن تُوفّق بين دعمها المعلن للديمقراطية وتصديرها لتقنيات قد تقوّضها؟
مايتر: صحيح، يُبرِز مقال “فورين أفيرز” اختلافا جوهريا في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة. فالنماذج الصينية والبنية التحتية الرقمية الأوسع لها تُبنَى أساسا لخدمة الدولة، حيث تُسهّل المراقبة عبر تشغيل أنظمة التعرّف على الوجه والصوت، وتُطبَّق تلقائيا رقابة على المحتوى الذي ينتقد الحزب الشيوعي الصيني، كما يمكن ضبط خوارزمياتها لنشر الدعاية المؤيدة للصين. الهدف الأساسي لهذا النظام الرقمي بأكمله هو توسيع ما يُعرَف بالاستبداد الرقمي.
ويتناقض هذا بشدة مع الهيكل الأميركي والطريقة التي تُطوَّر بها النماذج الأميركية، فهي تعكس عموما التزامات أقوى بالمعايير الديمقراطية والشفافية والخصوصية الرقمية واختيارات المستخدم وحماية البيانات. يتعلَّق الأمر حقا بالميزات الموجودة في نماذج الذكاء الاصطناعي التي تُقلّل من فرص إساءة استخدام الحكومة لها. وهذا هو الفارق الأساسي بين النموذجين، وهو جزء من السبب الذي يجعلنا نعتقد أنه من المهم ألا تتخلى الحكومة الأميركية عن النظام البيئي التكنولوجي العالمي للصينيين، خاصة في مناطق الجنوب العالمي حيث تتمكن النماذج الصينية -بجودتها الكافية- من إحراز تقدم مقارنة بما يقدمه القطاع الخاص الأميركي حاليا.
- يشير بعض المفكرين إلى أن الذكاء الاصطناعي بُني على أسس قد تتعارض مع الديمقراطية. حتى وإن سلمنا بأن ريادة الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي تُمثل ريادة لدولة ديمقراطية، فإن الذكاء الاصطناعي في الوقت نفسه أداة سهلة للتلاعب بالديمقراطية. لقد رأينا هذه المعضلة تتجلى مرارا في الغرب قبل أن تظهر في دول أخرى. فهل تستطيع واشنطن التوفيق بين هذا التناقض الجوهري؟
مايتر: أوافقك الرأي، فالتقنيات -ومنها الذكاء الاصطناعي- سيف ذو حدين، فهي تُقدِّم فوائد هائلة، إلا أنها تحمل في طياتها مخاطر وتكاليف متأصلة. أحد أكبر المخاطر المتعلقة بنماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة يكمن في قدرتها على إنشاء تزييف عميق للأشخاص وصورهم وتصريحاتهم. ويمكن لهذا التزييف أن يكون مصدرا للمعلومات المضللة في الفضاء المعلوماتي، مما يُصعِّب على المواطنين تمييز الحقيقة، واتخاذ قرارات مستنيرة. وهذا يشمل القرارات التي تؤثر على الانتخابات وغيرها من المجالات المشابهة.
يُمثل هذا خطرا وتحديا حقيقيا يجب على الحكومة الأميركية أن تتعامل معه، خاصة فيما يتعلق بدمج هذه النماذج الرائدة في مجتمعنا وكيفية انتشارها. ولا يقتصر هذا التحدي على الولايات المتحدة وحدها، بل تتصارع معه الديمقراطيات الأخرى أيضا. لذا، من المؤكد أن هذا أحد التحديات التي ستضطر الدول الديمقراطية إلى مواجهتها مع استمرار نضوج هذه التكنولوجيا وتزايد كفاءتها في تمكين التزييف العميق ونشر المعلومات المضللة.
- مع سعي الصين لتطوير ما يُعرف بقدرات الحرب الخوارزمية، كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل طبيعة الحروب المستقبلية؟ وما الدور الحاسم الذي ستلعبه سرعة وتعقيد الخوارزميات في تحقيق التفوق العسكري بساحة المعركة؟
مايتر: تُركز الكثير من أبحاثنا في “راند” على هدف الصين الصريح في نشر قدرات الحرب الخوارزمية. وهذا يُشير أساسا إلى نوع مستقبلي من الحروب، حيث تصبح العناصر التقليدية للجيوش، مثل الدبابات والسفن، أقل أهمية من سرعة وتعقيد وموثوقية خوارزميات الدولة. على سبيل المثال، تَخيّل نظاما لإدارة المعارك مدعوما بالذكاء الاصطناعي يُعالج المعلومات وينفذ القرارات آلاف المرات أسرع من البشر.
هذا النظام يمكنه ابتكار طرق أكثر ذكاء لاستخدام القوات العسكرية. فكِّر أيضا في تأثير ذلك على أسراب المُسيرات مثلا، التي يمكن تنسيقها واستخدامها بطريقة أكثر فاعلية مما نراه اليوم.
إذا كانت لديك خوارزمية أقدر بكثير من تلك التي يمتلكها خصومك، فإنك تكتسب ميزة كبيرة في شل شبكتهم في بداية الصراع. هذه هي الدينامية هنا: الدولة التي تمتلك خوارزميات متفوقة يمكنها بالفعل تحقيق ميزة كبيرة، وربما حاسمة، كي تُربِك الخصم قبل أن يتمكن حتى من الرد. هذا يجعل جودة الخوارزميات مُحدِّدا أساسيا -أو على الأقل محددا مُهما- للنصر في ساحة المعركة. هذه هي الدينامية التي نواجهها اليوم فيما يتعلق بكيفية إعادة الذكاء الاصطناعي تشكيل الحرب في المستقبل.
- يتساءل الكثيرون عن سبب اعتبار الصين تهديدا عالميا، خاصة أنها لم تشارك في حروب مباشرة، بعكس الولايات المتحدة التي انخرطت في صراعات متعددة بالشرق الأوسط وغيره، فما الذي يجعلنا نرى الصين مصدر قلق رغم غياب تدخلاتها العسكرية بنفس وتيرة أميركا؟
مايتر: من المهم أن نعِيَ أن الولايات المتحدة والصين تتنافسان استراتيجيا على النفوذ العالمي، وتسعيان لتعزيز مصالحهما، وتتخلل هذه العلاقة توترات هيكلية يتعامل معها الطرفان. وفَهْمي لاستراتيجية الحكومة الأميركية أنها لا تسعى لخوض حرب مع الصين، بل على العكس، تحاول ردعها عن الحرب لمنع حدوثها.
ولكن لدينا مناطق تتضارب فيها المصالح مباشرة، فإذا نظرنا إلى تايوان نجد أن الصين لديها هدف معلن هو إعادة توحيدها بالبر الصيني. ولتحقيق ذلك، تُطوِّر الصين قدرة عسكرية تمنحها خيار استخدام القوة لتحقيق هدفها، مما يعني -من منظور الدفاع الأميركي- أن الجيش الصيني قد يُشكل تحديا كبيرا لاستقرار وأمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لذا، يسعى الجيش الأميركي للحفاظ على ردع موثوق به حتى لا ترى الصين أن من مصلحتها مواجهة الولايات المتحدة في حرب محتملة في المحيطين الهندي والهادئ، كما هو الحال في تايوان. ومن منظور التخطيط العسكري، يعني هذا أنه من المهم للجيش الأميركي أن يحافظ على ميزة نسبية على الصين في هذه المنطقة، بحيث لا ترى بكين أن اللجوء إلى العدوان أو الدخول في حرب وسيلة قابلة للتطبيق لتسوية قضية سياسية.
- لقد أشرت إلى تايوان كنقطة حرجة للغاية في العلاقة بين الصين والولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تلعب تايوان دورا بالغ الأهمية في مجال التكنولوجيا، لكونها مركزا لإنتاج الشرائح فائقة التقدم، فكيف يمكننا أن نفهم موقع تايوان ودورها في سياق هذا التنافس المحتدم بين البلدين؟
مايتر: تُعد تايوان ذات أهمية قصوى للمصالح الأميركية لأسباب متعددة، فهي أولا دولة ديمقراطية، وثانيا قد تُصبح في حال سيطرة بكين عليها؛ نقطة انطلاق لمد النفوذ الصيني في المنطقة، مما قد يُعرض الجيران الإقليميين وحلفاء الولايات المتحدة -مثل اليابان- لضغوط كبيرة. وثالثا -كما أشرتَ- تايوان ذات أهمية بالغة للاقتصاد العالمي والاقتصاد الأميركي. لقد أجرينا دراسة في “راند” قبل عامين فقط، خلصت إلى أن تَعطّل شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (TSMC) لأي سبب؛ سيؤدي إلى ركود الاقتصاد العالمي في غضون شهرين. هذا لا يقتصر على الاقتصاد الأميركي أو الصيني فقط، بل يشمل العالم بأسره، وبالتالي فإن أهميتها الاقتصادية هائلة.
يأمل الكثيرون في تايوان أن يكون هذا الدور الاقتصادي المحوري بمثابة “درع سيليكوني”، يعني أن تصبح بلادهم ذات أهمية قصوى لدرجة أن الصين لن تجرؤ على استخدام القوة العسكرية أو الدخول في أعمال عدائية كبيرة قد تؤدي إلى سقوطها. ونأمل أن يكون هذا هو الحال، نظرا لقيمة تايوان الكبيرة للاقتصاد العالمي.
- بناء على المخاطر المترتبة على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة، ما مفهوم “السباق نحو القاع” الذي يجب على الولايات المتحدة والصين تجنبه؟ وكيف يمكن أن يؤدي إلى سيناريو “فقدان السيطرة” أو حتى إلى الصراع بين البلدين؟
مايتر: حسنا.. إن جوهر المقال الذي كتبناه في مجلة “فورين أفيرز” هو أنه لا يوجد سباق واحد فقط، بل خمسة جوانب لسباق الذكاء الاصطناعي. هناك السباق الذي يتحدث عنه الجميع ويركز عليه الناس وهو سباق التكنولوجيا والريادة في تطوير الذكاء الاصطناعي، وربما عبور عتبة الذكاء الاصطناعي العام. هذا بالتأكيد سباق مهم، من الأفضل للولايات المتحدة أن تفوز به بدلًا من أن تخسره.
ولكن هذا ليس السباقَ الوحيد، فهناك أربعة سباقات أخرى. هناك سباقٌ لتحقيق ميزة الأمن القومي بطريقةٍ تُمكّن من دمج نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة في الجيش ومجتمع الاستخبارات، وسباق لتحقيق الفوائد الاقتصادية والمجتمعية للذكاء الاصطناعي، وتمكين استخدامه في الاكتشافات العلمية، وبناء مشاريع جديدة، وزيادة إنتاجية الشركات وكفاءتها، وما إلى ذلك.
ثم هناك سباقٌ للسيطرة على النظام البيئي التكنولوجي العالمي، ويتعلق بالنماذج التي ستعتمد عليها دول العالم في بنيتها التحتية الرقمية، هل هي النماذج الأميركية أم الصينية؟ ثم يأتي السباق نحو القاع، وهو السباق الذي يجب علينا جميعا تجنبُه، وفي هذا المجال تتوافق مصالح الولايات المتحدة والصين بشكل كبير، وأعتقد أنه ستكون هناك مجالات للتعاون في هذا الصدد. ينبع هذا السباق من القلق من أن نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة قد تكون غير متوافقة مع نوايا المشغّلين أو المصممين البشريين، وقد تعمل بطرق غير متوقعة أو تُسبب مشاكل عشوائية.
ويمكن أن يؤدي هذا إلى سيناريو “فقدان السيطرة”، حيث يتصرف الذكاء الاصطناعي خارج السيطرة ويفعل أشياء تتعارض مع ما يريده أي إنسان، مما يخلق مجموعة واسعة من المشاكل المحتملة. كما يمكن أن تُؤدي ديناميات عدم الاستقرار بين الولايات المتحدة والصين إلى مستقبل ما بعد الذكاء الاصطناعي العام، أو إلى صراع بين البلدين. إننا نريد تجنب كل ذلك، ولهذا من المهم إيجاد طرق للتعاون لتجنب تلك النتائج السلبية.
- قد تتفوق الولايات المتحدة على الصين في وتيرة تبني القطاع الخاص للذكاء الاصطناعي، لكن ما أبرز نقاط الضعف الهيكلية التي تعيق واشنطن، وخاصة جهازها الأمني والعسكري، عن مواكبة هذا السباق؟ وكيف تمنح السياسات الصينية -مثل “الاندماج الإشاري”- بكين ميزة تنافسية في تبني هذه التكنولوجيا بسرعة وفاعلية؟
مايتر: أعتقد أن الميزة الحقيقية في هذا المجال بين الولايات المتحدة والصين لا تكمن في تطوير التكنولوجيا بقدر ما هي في جانب التبني. يُعد القطاع الخاص الأميركي الأسرع في تبني الذكاء الاصطناعي مقارنة بنظيره الصيني. وعند الانتقال إلى القسم الحكومي، نجد أن الحكومة الصينية قد تكون أسرع في تبني الذكاء الاصطناعي من الحكومة الأميركية.
يعود ذلك إلى وجود سياسة صريحة لديهم في هذا الشأن، وهي سياسة “الاندماج الإشاري” التي تتضمن مجموعة واسعة من الحوافز من أجل تسريع تبني الذكاء الاصطناعي داخل الجهاز العسكري والاستخباراتي.
يُعد هذا نهجا مختلفا تماما عن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة الأميركية حاليا مع القطاع الخاص. صحيح أن الحكومة الأميركية، وبحق، حدَّدت هذه المشكلة وتحاول معالجتها منذ فترة عبر إدارات مختلفة، لكن الوضع الحالي يتمثل في وجود دورات شراء طويلة جدا لشراء الذكاء الاصطناعي ودمجه في الجيش، وثقافة تشغيلية داخل الجيش غالبا ما تقاوم التغيير وما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي.
كما أن وزارة الدفاع الأميركية تُعدّ بيئة غير مضيافة نسبيا للذكاء الاصطناعي، حيث تُنظم البيانات بشكل شديد الانعزالية، وبطريقة تُصعِّب على الذكاء أن يتجذر ويزدهر حقا. ويضع هذا الولايات المتحدة في وضع غير مُواتٍ هيكليا فيما يتعلق بتبني التكنولوجيا في جهاز الأمن القومي مقارنة بالصينيين.
- بوصفك مديرا في “راند غلوبال” ومديرا لبرنامج المخاطر، ما الخطر الذي يجب على الناس الانتباه إليه الآن؟ وما التهديد الذي يستحق تركيز البشرية الأكبر؟
مايتر: الحقيقة المؤسفة هي أن العالم يواجه حاليا مجموعة متنوعة من المخاطر العالمية والناشئة، مما يعني أنه لا يوجد نقص في المجالات التي تستدعي التركيز. هناك خطر الذكاء الاصطناعي المتقدم والذكاء الاصطناعي العام، وخطر التقدم في التكنولوجيا التي تُغيّر البيولوجيا، مثل ديناميات البيولوجيا الاصطناعية التي يمكن أن تُؤدي إلى مشاكل محتملة واسعة النطاق. كما أرى أن الصين نفسها تُشكل خطرا على الأمن العالمي، ويمكننا الاستمرار في ذكر المخاطر المنهجية التي قد تكون مدمرة للغاية.
إنني أخصص حاليا معظم وقتي وبحثي للمخاطر المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب الاحتمال الكبير لظهور الذكاء الاصطناعي العام، الذي يمتلك إدراكا بمستوى بشري على نطاق واسع. إذا أمكن بالفعل أتمتة الإدراك البشري، فإن لذلك آثارا بالغة الأهمية على مجتمعاتنا، وعلى طريقة عمل الحكومات، وكيف يشارك الناس في العمل. ولهذا، أعتقد أن الآثار المنهجية لظهور الذكاء الاصطناعي لم تقدّر بعدُ بما يكفي.
إننا لا نعرف يقينا هل سيَظهر الذكاء الاصطناعي العام “فائق القدرة”؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف سيتجلى بالضبط؟ وما نوع القدرات التي سيتمتع بها؟ وكيف سيتم اعتماده؟ وما إلى ذلك. ولكن الأشخاص الذين هم في طليعة بناء هذه التكنولوجيا كانوا يدقون ناقوس الخطر منذ فترة، قائلين إن القدرات تتحسن باستمرار، وتُظهر الاتجاهات أنهم على حق في ذلك. سنرى إلى أين سيذهب الأمر، ولكن الاتجاهات تشير إلى أن القدرات تتطوَّر بشكل مطّرد.
ما أعتقد أنه سيكون ضارا للحكومة الأميركية والعالم بأسره هو تعثرُنا المحتمل في مواكبة مستقبل الذكاء الاصطناعي العام ومواجهته ونحن في حالة إفلاس تحليلي، دون أن نفكر مليا في ماهية هذه التكنولوجيا القوية، وكيف يمكننا استخدامها على أفضل وجه لتحقيق مصالحنا الجماعية وبشكل يفيد العالم، بدلا من التفاعل مع بعض المشاكل والجوانب السلبية لحظة بلحظة.
- شكرا بروفيسور مايتر.. كان من دواعي سرورنا الحوار معك.
- الشكر لك.