الخرطوم- “لم يكن في نيتي الرحيل، ولم أتخيل يوما أن تُصبِح حياتي مجرد حقيبة على ظهري، لكن حين اندلعت الحرب، خرب كل شيء”، بهذه الكلمات بدأ المصور الصحفي السوداني عباس عزت سرد تفاصيل رحلته الشاقة مع النزوح واللجوء منذ اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل/نيسان 2023.
ومن داخل معسكر “كرياندونقو” للاجئين في أوغندا تحدث عزت للجزيرة نت قائلا “وجدتُ نفسي أغادر الخرطوم إلى مدينة ود مدني بحثا عن ملاذ مؤقت، لكن المؤقت طال، وحين ضاق بي الحال، حملني قدري إلى مدينة سنار، ثم إلى القضارف، وهناك وجدتُ الجوع في انتظاري”.
وأردف “لم يكن أمامي سوى الرحيل إلى القرى جنوب القضارف، أحمل المنجل بيد، والكرامة باليد الأخرى، فقمت باستئجار قطعة أرض صغيرة، وحرثتها بيدي وزرعتها، وكنت أقاتل وحدي في صمت الأرض، حتى حصدت محصول الذرة الأول”.
ويضيف أنه باع محصول الذرة بثمن بخس، لا يكاد يبل ريقا، وبعد أن انتهى الموسم، عاد إلى القضارف مفلسا من جديد، وراح يطرق أبواب النازحين والمنظمات، فوجد أبوابا مفتوحة ووعودا مغلقة، حسب وصفه.
وقال “ضاقت بي الأرض حتى فكّرت: لماذا لا أموت هناك، في شرق النيل، بطلق ناري نظيف بدلا من الموت البطيء بالجوع هنا؟”.
بائع للفلافل
وفعلا، قرَّر عزت الرحيل إلى حيث “الموت أسرع”، فاستقل حافلة ركاب من مدينة القضارف إلى مدينة ود مدني، ليجد أن قوات الدعم السريع قد سيطرت عليها، والخوف يسكن الطرقات، ويقول إنه قضى ليلته الأولى بين الخراب والرائحة الثقيلة للموت المتعفّن في الطرقات، والظلام المرعب.
و”أخيرا”، وصل إلى بيته في إحدى محليات الخرطوم، والتي كان الدعم السريع يسيطر عليها بالكامل، ويضيف “حاولت البدء من جديد؛ حملت غلاية كهربائية، وأعددت الطعمية (الفلافل)، وبعت السندويشات، ومع ابتسامات الزبائن بدأت الحياة تدبّ في قلبي ثانية، لكن سرعان ما قُطعت الكهرباء والماء والاتصالات، وظلّ هذا الحال 4 أشهر كاملة، كأنها 4 سنوات من العتمة”.
وأفاد عزّت بأنه هرب مرة أخرى عبر طُرق وعرة من منطقة شرق النيل إلى مدينة القضارف، واصطحب معه هذه المرة أدوات صناعة الطعمية التي عاد لصنعها وبيعها للعابرين، حتى تمكّن من جمع مبلغ لتجديد جواز سفره، وخطّط بعدها للخروج النهائي من السودان.
وليس الجوع وحده ما دفعه للمغادرة، حسب قوله، بل الخوف من تلفيق الاتهامات، بعد أن نشر أحدهم صورة قديمة له وزعم أنها تعود لعام 2025، وخاصة باجتماع مع قادة الدعم السريع غرب كردفان.
وختم قائلا “حاليا، أمزج بين الحكاية والواقع، وبين الأسطورة والمعاناة. ومن قلب معسكر “كرياندنقو” للاجئين في أوغندا، أحاول خلق قصص غنية وعميقة تُحاكي تجارب النسيان والأمل، وتشمل تحقيقات صحفية ومقالات تستعرض قضايا اللاجئين، وقصصهم اليومية وتحدياتهم”.
الصحفي الحمَّال
ويبدو أن حال عزت، الذي اضطر لصنع وبيع الطعمية والعمل في الزراعة قبل أن يصبح لاجئا، أخف وطأةً مما عاشه الصحفي محجوب حسون، الذي قادته الحرب إلى معسكر لجوء قاسٍ بجنوب السودان، حيث يعمل هناك حمالاً على “درداقة” (عربة يدوية صغيرة تُستخدم لحمل البضائع) في سوق المعسكر الصغير ليكسب قوت يومه ويُوفِّر ما يستطيع من عيش كريم لأسرته.
وقال محجوب، الذي عمل مراسلا لصحيفة “السوداني” ومستشارا للاتحاد العام للصحفيين السودانيين بولايات دارفور، للجزيرة نت “نحن نُهَجَّر بلا صوت، ونُباد بصمت، ونُنسى وكأننا لم نكن يومًا صحفيين”، مضيفا أن الوضع المعيشي صعب للغاية في المعسكر الذي لجؤوا إليه، والذي يضم نحو 24 ألف لاجئ، فرّ معظمهم بسبب نقص الغذاء.
وواجه كثير من الصحفيين السودانيين واقعا شديد التعقيد بعد فقدان وظائفهم، وعانوا متاعب حقيقية بعد أن كانوا يعتقدون لوقت طويل بأن الصحافة وحدها هي “مهنة المتاعب”، بينما وجدوا أن المهن الأخرى التي اضطر بعضهم للعمل بها، مثل طواحين الحبوب، وأفران الخبز، وزراعة البصل، ومصانع الثلج، وبيع الأطعمة والخضروات في الطرقات، أشد تعبا.
لم يكن يدور في خلد الصحفي محجوب، الذي كان يتابع ويدافع عن قضايا عمال الشحن والتفريغ، أنه سيصبح يومًا جزءًا منهم، وأكد أنه لا يتضجّر من مهنة “حمّال” التي يمارسها الآن ويعيل بها أولاده، لكنه يناشد الجهات الصحفية والإنسانية العالمية الوقوف مع الصحفيين والمتأثرين في محنتهم، بعد أن قضى بعضهم نحبه، بينما لا يجد آخرون ما يأكلون.
وبدا محجوب منهكا في مقطع فيديو سجّله قبل أيام من داخل معسكر لجوء في جنوب السودان يضم أعدادا كبيرة من الذين فرّوا كذلك من الحرب في السودان، وكشف فيه عن تحوّله من صحفي إلى حمّال، ليكسب لقمة عيشه في المنفى الذي لجأ إليه بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا منذ 15 أبريل/نيسان 2023.
ونوّه إلى مأساة الصحفيين السودانيين الذين شُرّدوا بسبب الحرب، متسائلا “لماذا لا يسأل أحد عنهم؟ أين الاتحاد الدولي؟ أين منظمات الصحفيين؟ نحن نعيش أوضاعا مأساوية بلا دخل، وبلا سكن، وبلا صوت يسمعنا”.
وأشار محجوب، إلى تفرّق زملائه بين دول الجوار، حيث أصبح بعضهم بلا مأوى أو دعم، ويعمل آخرون في مهن “هامشية”، مطالبا بإطلاق صندوق طوارئ لدعم الصحفيين السودانيين، وإعادة النظر في دور المؤسسات الصحفية الدولية التي تجاهلت واحدة من أكبر أزمات الإعلاميين في العالم العربي.

محدودية الفرص
من جهته، يقول المدرّب في مجال الحماية الصحفية والقيادي باتحاد الصحفيين السودانيين، الصحفي عبود عبد الرحيم، للجزيرة نت، إن الحرب فرضت واقعا صعبا على الصحفيين، وتسببت بتوقّف الصحف الورقية، مما استوجب السعي بشتى السبل لتوفير حياة كريمة لأسرهم.
وكشف أنه عمل لأشهر بعد الحرب في تجارة بسيطة لبيع سلع استهلاكية وتقديم خدمة تحويل الرصيد بسوق مدينة عطبرة، لكنه مُني بالخسارة، ليدرك بعدها أنه لا بديل له سوى العودة مجددًا للعمل في مهنة الصحافة التي يحبها، فلجأ إلى مصر، حيث يعمل الآن رئيسًا لتحرير صحيفة “المقرن” الإلكترونية.
وفي ظل محدودية فرص العمل في مكاتب الوكالات والفضائيات العربية والأجنبية داخل السودان، انتقل صحفيون كثر للعمل في صحف إلكترونية أنشئت حديثا، لكن أغلبهم الآن يواجه ظروفا معيشية صعبة، وأصبحوا غير قادرين على إعالة أسرهم بسبب الحرب.
وأجبرت الحرب صحفيين كثيرين على العمل بمهن غير الصحافة، وتعتمد على مدخلات متوفرة ورخيصة ورأس مال صغير، وذلك في إطار التكيُّف مع واقع النزوح واللجوء الذي فرضته الحرب، وتوفير احتياجاتهم بعد توقف مؤسساتهم الإعلامية.