بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم
هذه هدية أقدمها بعد أن أهداها إليّ أخي الأستاذ أحمد نواف المطيري، ولما كان المثل الكويتي يقول: «هديه من هِدّيه تورث الجنة»، فإنني حريص على تقديمها على سبيل الإهداء إلى القراء الكرام.
و«الهدية» مقالة كتبها ونشرها د. زكي نجيب محمود، وسأقدمها هنا بحذافيرها لما فيها من صدق العبارة والدلالة على مكانة أستاذي محمود محمد شاكر.
كان موضوع المقالة هو عرض قصيدة «القوس العذراء» التي كتبها الأستاذ محمود محمد شاكر وطبعها في كتاب صدر في سنة 1964م، وكان قد كتبها في شهر يناير لسنة 1952م، ونشرت آنذاك في مجلة الكتاب. ولا ينتهى الحديث بي – ولا بغيري – عن هذا العالم الجليل، رحمه الله، فأستاذي كان قمة في علمه، وعلما في فضله، ومن الملاحظ أن الاهتمام به لم يبد جليا إلا بعد وفاته، وهذا يدل على مكانته في علوم العربية بجميع فروعها واهتمامه بتاريخ الأمة الإسلامية، ودفاعه عنها، ووقوفه في وجوه كل المخالفين المعادين للعروبة والإسلام.
قضيت وإخواني المستشار عبدالله العلي العيسى والأستاذ صالح عثمان عبداللطيف، رحمه الله، والأستاذ جمعة ياسين معه أياما من أسعد أيامنا، ودرسنا على يده دروسا في الشعر العربي تعلمنا من خلالها ما لم نعرفه من قبل.
ولد أستاذنا محمود محمد شاكر في مدينة الإسكندرية سنة 1909م وبعد أن بلغ مبلغ الدراسة واصلها على اتجاهين، أحدهما الدراسة النظامية إلى أن بلغ السنة الأولى الجامعية فحدث له ما حدث مع أستاذه د. طه حسين فترك الدراسة النظامية نهائيا منذ ذلك الوقت واتجه إلى الاتجاه الثاني، فانضم إلى مجموعة من الشباب كانت تتلقى العلم العربي عند الشيخ سيد المرصفي، وقد استفاد منه كثيرا، وبما تعلم على يد هذا الشيخ الفاضل تفتحت له مجالات العلم فصار يقرأ ويتابع حضور مجالس العلماء، وكان هذا يسيرا عليه، فوالده كان وكيلا للأزهر، ولذا فهو يعرف عن طريقه الرجال الذين يستفاد من علمهم.
أمضى حياته في الدفاع عن لسان الأمة العربية، وعن ثقافتها، فكان طوال حياته خصما لكل من يريد شرا بالتراث العربي الإسلامي.
حقق عددا كبيرا من المخطوطات العربية، منها ستة عشر مجلدا من تفسير الطبري (طبعته مؤسسة دار المعارف بمصر)، وكتاب طبقات فحول الشعراء، وله كتب نقدية كثيرة. وكانت له مقالات كثيرة في بداية حياته الأدبية والعلمية جمعت بعد وفاته في كتاب كبير أطلق عليه اسم: «الجمهرة».
وهو شاعر قوي الشعر، ولكنه صاحب اتجاه خاص به، فهو ينزع فيه نزعة إنسانية، ويخاطب في بعضه من لا يخاطبه الإنسان، ولكن نتيجة هذه المخاطبة مهمة عنده، ومن يقرأها يدرك هدفه من التطرق إليها.
ومن أمثلة ذلك قصيدته التي كتبها موجها فيها الحديث إلى كلب صديقه الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل وقد عرضتها في وقت سابق ضمن مقال نشر، ومن يقرأها يجد فيها اتجاها مختلفا عن أنواع الشعر السائد وقت أن قالها، وقد يعتبر البعض أن هذه المخاطبة غير مقبولة لأنها مع كلب، فهي تخالف ما يقتضيه الشعر من جدية، ولكن هذا القول مردود عليه لأن من يطلع على قصيدة (وعد) وهذا هو اسم الكلب، يجد أن الحديث فيها لا علاقة له بالهزل، ثم إذا رجع القارئ إلى التراث الشعري العربي وجد أن مخاطبة الحيوان لا تغير من قيمة القصيدة التي قيلت فيه، ولا تهدم قيمة الشاعر الذي قالها. هذا هو شاعر العربية الكبير الفرزدق قد خاطب الذئب فقال له:
وأطلس عسّال وما كان صاحبا
دعوت بناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلت ادن دونك إنني
وإياك في زادي لمشتركان
وبتُّ أسوي الزاد بيني وبينه
على ضوء نار مرة ودخان
تبدأ قصيدة (وعد) بما يلي:
يا وعد مالك مهزولا ومختزلا
كأن جلدك، يا للبؤس، أسمال
ألجوع غالك؟ ام غالتك نائبة
من اللواتي لها في الروح أغوال
بنو أبيك لهم في الدور منزلة
عطف، وحب، وتقريب وإدلال
وأنت وحدك، منبوذ ومطرح
تطوف حولك أشباح وأهوال
وتبدأ قصيدة «القوس العذراء» بوصف حال صانع الأقواس، وهو يبحث بين أغصان الشجر ما يصلح لأن يصنع منه قوسا يرغب فيها الصيادون الذين يغلون له الثمن كلما كان اختياره سليما وعمله محكما، فكان هذا الاستهلال عنوانا لكل ما سيأتي في القصيدة بعده:
كيف ذاق البؤس… حتى شربت ماء لحالها؟
كيف ناجته.. وناجاها.. فلانت فلواها؟
أما الدكتور زكي نجيب محمود فقد ولد 1905م، وتوفي 1993م، وهو أديب وفيلسوف، وأستاذ جامعي له عدة مؤلفات، أهمها كتاب «المنطق الوضعي» في جزأين، وكتاب «نحو فلسفة علمية» له شهرة واسعة، وله كتابات في الصحف المصرية، وكل كتاباته ذات أهمية بسبب الموضوعات التي يتناولها فيها.
يطلق عليه لقب «فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة»، لأنه كان في أبحاثه يمزج بين الفلسفة والأدب، يقدم لقرائه أفكارا مهمة ولكنه يقدمها بأسلوب سهل جلي، ويسعى إلى المواءمة بين التراث العربي والحداثة، حاصل على عدة جوائز، وذلك لما قام به من جهود في مجال نشر العلوم والآداب مع حرصه على التراث العربي، واهتمامه بالتوعية العلمية.
وفي الكويت كان للدكتور زكي نجيب محمود نشاط كبير، فقد أمضى سنتين في جامعة الكويت مدرسا وممارسا للأنشطة التي تقدم بها، وكان في الكويت حين صدر كتابه «تجديد الفكر العربي» في بيروت، تدل على ذلك مقدمة الكتاب التي ذكر فيها تاريخ كتابتها وهو سنة 1971م وإلى جانبه: جامعة الكويت.
وقد قامت الجامعة بتكريمه عند نهاية عمله بها ثم أصدرت كتابا تذكاريا كبير الحجم بعنوان: «زكي نجيب محمود، فيلسوفا وأديبا ومعلما»، وقد جاء هذا الكتاب في 666 صفحة.
وإضافة إلى ذلك فقد أسهم في أنشطة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وكانت له مقالات في مجلة العربي أصدرتها هذه المجلة في سنة 1990م ضمن كتاب بعنوان: «نافذة على فلسفة العصر».
ولم يتردد في مشاركة المنظومات الشعبية الكويتية في أنشطتها، فها هي رابطة الاجتماعيين بالكويت تدعوه إلى إلقاء محاضرات في مواسمها الثقافية فيبادر إلى ذلك دون تردد. ويقدم عدة محاضرات هي دروس عامة في الثقافة ودورها في المجتمع، وقد ألقى من هذه المحاضرات والمساهمات ما يلي:
1- التحول العلمي وأثره في حركات الشبات وحياة القلق في سنة 1969م.
2- مساهمة في ندوة عن التكنولوجيا والحريات الأساسية للفرد والمجتمع في سنة 1970م.
3- دور بعض الشخصيات العربية في زيادة الفكر الإسلامي في سنة 1971م.
4- الخصائص الحضارية للمجتمع العصري في سنة 1972م.
ويكفي هذا للدلالة على مشاركاته في كل المجالات التي تتيح له التعبير، وتتيح لمستمعيه الفوائد.
* * *
ابتدأ الدكتور زكي نجيب محمود مقاله بأبيات قالها الشاعر العبقري محمود حسين إسماعيل، ووجهها إلى صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر بمناسبة طباعة الكتاب الذي ضم تلك الرائعة وكان منها قوله:من قبل أن تخلق في غصنها
والدهر يروي سرّها للأزل
وقبل أن ينساب في عودها
تحت الندى الحي حصاد الأجل
سكنتها نايا عميق المدى
يسقي الصدى من نبضه المشتعلإلى أن يختمها بقوله:
ما هي قوس في يدي نابل
وإنما الواح سحر نزل!!
ودون أن أطيل في المقدمات فإن هذا هو نص مقال الدكتور زكي نجيب محمود الذي أشرت إليه في البداية أورده فيما يلي:
«درة ساطعة هذه بين سائر الدرر، و«آية هذه من الفن محكمة» بين آيات الفن المحكمات، وقعت عليها وأنا أدور بالبصر العجلان في سوق الكتب الحديثة الصدور، فكنت – حين وقع عليها البصر – كمن كان ينبش في أديم الأرض بين المدر والحصى، ثم لاحت له بغتة – لتخطف منه البصر ببريقها – لؤلؤة.
هو كتاب من ست وسبعين صفحة صغيرة، رقمت أسطرها صفحة صفحة، كما ترقم حبات الجوهر الحر يضعها الخازن في صندوق الذخائر، لكي لا تفلت منها عن الرائي جوهره، ولو قد كانت لي الكلمة عند طبع الكتاب، لأمرت بترقيم محتواه لفظة لفظة، لأن اللفظة من كل سطر لؤلؤة.
وللكتاب قصة ترويها صفحاته، فإذا هي قصة الفن الخالد كيف تنبثق آثاره من ينبوع الفطرة الإنسانية، فيظل يتلقفه على مر العصور كل ذي فطرة سوية، يتملاه ثم يضيف إليه، ولقصة الكتاب ما يشبه التمهيد لها: لقاء ذات يوم بين رجلين اتفق فيهما الطبع الراسخ بجذوره على عقيدة مؤمنة بتجويد العمل كائنا ما كان، وفي هذا التجويد «بلّغنا رسول الله عن ربه بلاغا يضيء لكل حي نهج حياته، ويمسك عليه هدى فطرته، إذ قال: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».. وأما الرجلان اللذان التقيا ذات يوم عن طبع مشترك في إتقان العمل، فهما أديبنا الكاتب الشاعر الأستاذ محمود محمد شاكر، والأستاذ شفيق متري صاحب دار المعارف – ولم يكونا قد التقيا من قبل (فيما يروى الأستاذ عادل الغضبان في ضميمة قصيرة ألحقها بالكتاب) – «وتطرق الحديث بين الرجلين إلى الكلام على العمل وتجويده، والفن وسحر أواخيه، فإذا بالرجلين روحان مؤتلفان متعارفان» وأراد الأستاذ شاكر أن يخلد هذا اللقاء وما دار فيه من حديث عن العمل المتقن وصلته بالفن، فكيف خلده؟
دار في نفسه أول ما دار أنه لا فرق بين العمل يتقنه صاحبه ويضع قلبه فيه، وبين الفن المبدع الخلاق، وليس نقاد الفن جميعا على رأي واحد في ذلك، فمنهم من يفرق بين العمل يراد لنفعه وثمرته، والفن يراد لذاته ولنشوة النفس بما فيه، وان هذا الفرق بين العمل الجيد والفن المبدع ليظل قائما، مهما بلغ العمل من أبعاد الجودة والإتقان، وأما أديبنا شاكر فلا يميز بين عمل جاد وفن أبدع.
وعن هذه العقيدة عنده في العمل والفن، أمسك القلم ليكتب – بادئ ذي بدء – رائعة من روائع الشعر، يميز فيها الإنسان من سائر الأحياء والأشياء، في أن هذه تسير على نهج لا يتغير ولا يتبدل: «تولد الذرة من النمال، وتنمو، وتبدأ سيرتها في الحياة، وتعمل فيها عملها الجاد، وتفرغ من حق وجودها، حتى تقضي نحبها وتموت، هكذا هي مذ كانت الأرض وكانت النمال: لا تتحول عن نهج، ولا تمرق من هدى، وتاريخ أحدثها ميلادا في معمعة الحياة، كتاريخ أعرق أسلافها هلاكا في حمة الفناء، لا هي تحدث لنفسها نهجا لم يكن، ولا هي تبتدع توارثها هديا لم يتقدم».
ذلك شأن الحيوان يسلك المسالك بغريزته، وشأن الجماد يسير على سنة الله في خلقه، يجيء عمل الحيوان وسير الجماد، أتم ما يكون العمل وأكمل ما يكون السير لكنهما يجيدان عن غير وعي ولا مشيئة، وعن غير حب – ولا كراهية – لما يعملان، وأما الإنسان فشأنه آخر، لا يجيء لاحقه على نهج سابقه، فله مشيئة حرة ومن ثم كانت حيرته: «جار وعدل، فعرف وجرب فأخطأ وأصاب، ففكر وتدبر.. جاشت نفسه حتى اندفقت صبابة منها فيما يعمل، وتضرم قلبه، حتى ترك ميسمه فيما أنشأ، فتبدله بصنع يديه، لأنه استودعه طائفة من نفسه، وفتن بما استجاد منه، لأنه أفنى فيه ضرامة من قلبه، وإذا هو يستخفه الزهو بما حاز منه وملك، ويضنيه الأسى عليه إذا ضاع أو هلك».
بهذه النغمة الشجية القوية طفق أديبنا شاكر يكتب بضع صفحات من النثر، يبث فيها نظرته أن الإنسان – لا كسائر الأحياء والأشياء – تصله وشائج النفس والقلب بصنع يديه إذا هو استودعه طائفة من نفسه وضراما من قلبه، فعندئذ يزهى بما صنع، ويأسى له إذا ضاع، ولعمري تلك من خصائص الفن عند مبدعه، وإذن فلا فرق بين صناعة – هذا شأنها – وفن.
ثم ماذا؟
ثم يقع أديبنا شاكر بين ذخائر الأدب العربي القديم على ذخر نفيس، تتأيد به نظرته إلى العمل المتقن، كيف تربطه الروابط بصانعه حتى لكأنه قطعة منه، بل انه لكذلك، لأنه بعض لحمه ودمه، وزفرة من نفسه ونفثة من قلبه. وأما الذخر النفيس الذي وقع عليه أديبنا شاكر، فقصيدة للشماخ، وهو صحابي أدرك الجاهلية ثم أسلم، يصف بها قواسا كيف صنع قوسا فأجاد، فتعلق بها قلبه، ولما باعها وذهب بها شاريها، نظر إلى المال في يده – على كثرته – فإذا هو الهباءة التافهة قياسا إلى قطعة الفن التي ضاعت.
وقصيدة الشماخ التي تروى قصة القواس وقوسه، عدة أبياتها ثلاثة وعشرون، تجيء في أول الكتاب مشروحة، لتأتي بعدها الرائعة النثرية التي حدثتك عنها، كتبها أديبنا محمود شاكر بيانا لصلة القربى بين العمل والفن، وإعلانا بأن العمل الذي لا يبلغ مبلغ الفن، يكون دليلا على فساد الفطرة عند صانعه.
ثم ماذا؟
ثم يأتي قبل اللؤلؤة ولبابها، إذ يلتقي في أبدع الفن شاعران، أحدهما هو الشماخ بقصيدته، والثاني هو شاكر الشاعر، فتلقاك إزاء نسج محبوك، تتضافر فيه أبيات من قصيدة الشماخ مع أبيات من قصيدة شاكر، فخمسة وأربعون بيتا يمهد بها شاكر، تجيء بعدها ثلاثة أبيات من الشماخ، فعشرة من عند شاكر، فخمسة من الشماخ، فسبعة عشر من هنا، فاثنان من هناك، وستة عشر من هنا، وثلاثة من هناك، وعشرون من شاكر، واثنان من الشماخ، وثمانية من شاكر فخمسة من الشماخ، فسبعة وخمسون من شاكر يتلوها بيتان من الشماخ، فستة وثلاثون من شاكر، يجيء بعدها بيت واحد هو ختام قصيدة الشماخ، ثم يختم شاكر قصته بخمسة وسبعين بيتا.
فما القواس وقوسه، وماذا فيهما من عبرة لمن يعتبر؟
كانت القوس في ضمير الغيب، حين كانت في كنف منيع من شجر، لينمو عودها في مأمن وعلى مهل، لكن عامراً القواس شقت عينه الحجب إليها، وطفق يتغلغل في غصون الشجر الملتفة المتشابكة النابت بعضها في أصول بعض، حتى بلغ مكمن العود، فاستودعه الشمس عامين كاملين، لا يرفع عينه عنه ولبث العود يمتص ماء لحائه، وبعدئذ أخذ القواس في مناجاة قوسه حتى لانت بين أصابعه، فلواها، وسواها ثم سواها، فلما أن اكتملت قوسا، إذا ما فارقها السهم رنت وأعولت، وريع الوحش من هاتف السهم المنقض، إلا أن القوس – من كثرة ما عاناه باريها – لم تعد في عينه قوسا، بل تبدلت في عينه غادة معشوقة حسناء، يلفها في الحرير، وهو في أسماله، ووافي موسم الحج فأصطحب القواس معشوقته إليه، فلمحها محب فانبرى كالصقر ينقض إليها، وقدم لصاحبها أغلى الثمن ليشتريها، إذ قدم الذهب والفضة وثياب الحرير ومقروظ الجلد، ولو كان القواس يبتغي الثراء من قوسه لوجد بغيته، ولكنه نظر إلى المال وإلى القوس، فوجد نفسه وقلبه وروحه في هذه، وأما ذاك فلم يجد فيه إلا عرضا يزول، لا تربطه بالنفس آصره، فأبى أن يبيع قوسه، لكن غواية الناس من حوله مالت به حيث لم يكن هواه، فباع القوس، وأخذها الشاري وغاب بها عن مرمى النظر، فالتفت إلى المال في كفه، فإذا الكف كأنها خالية، فبكى.
ولست أدرى كيف أقص عليك على أي صورة جاء حديث القواس وقوسه في شعر الشماخ وفي شعر شاكر، إلا أن تقرأ شعرهما لتقف – كما وقفت – ذاهلا أمام هذا البناء الغني القوي المكين، ثم لا تكاد تفرغ من تلاوة هذا الشعر الرائع حتى تراك منقادا بقوة الجذب إلى قراءته من جديد، لتنعم بعظمة النفس الإنسانية حين تبلغ ذروة الإجادة، وكم إجادة هنا؟ إجادة القواس في صناعة قوسه، وهو الذي تدور حول إجادته الرواية، وإجادة الشماخ في قصيدته الصلبة العبقرية التي تسير بين كلماتها وكأنك تسير في مفاوز جبل أشم يروعك بشموخه ويقطع عليك الأنفاس بجبروته، وإجادة شاعرنا محمود شاكر، الذي كدنا لا نعرفه شاعرا حتى أطل علينا بهذه الروعة الرائعة، وفوق هذا وذاك أجاد شاعر ثالث هو محمود حسن إسماعيل الذي قدم للكتاب بقصيدة عن تلك القوس الموحية البليغة هي من غر القصيد.
نعم إنني لا أدري كيف أقص عليك قصة القوس العذراء على أي صورة جاءت شعرا إلا أن تقرأ الشعر نفسه، وحسبي أن أقدم لك نتفا من فن شاكر في شعره، فهو الذي تقمص روح القواس في عشقه لقوسه التي برأها فأتقن تقمصه حتى لقد انقلبت القوس في فؤاده – فؤاد محمود شاكر – غادة يتعشقها، تنصاع له فيهوى، وتتمرد عليه فينالها تأديبا وتهذيبا:
عصته وساءته أخلاقها
تشوزا… فلما ألتوت المدل
أعد الثقاف لها عاشق
يؤدبها أدب الممتثل
وعض عليها فصاحت له
فأشفق أشفاقه وانجفل
ويمضى الشاعر في وصفه لمعالجة القواس قوسه طوال عامين كاملين، حتى انتهى الأمر بأن: أطاعته من بعد أن لوعته بالوجد عامين حتى نحل.
ولما اكتملت له صناعتها، أهدى لها حلية صاغها بكفيه، حلية تخيرها من حشا الذئاب، وأعد لها وترا كالشعاع، وبعدئذ ضم إلى حضنها سهما مريشا كأنه أخ لها صغير.
فضمت عليه الحشا رحمة
وكادت تكلمه… لو عقل
فجن جنون المحب الغيور
فأنبض عنها أبيّ بطل
فجذب المحب الغيران وتر القوس، وأرسل السهم الذي ما كاد يضعه بيديه في كفالة أخته الكبرى، حتى أخذته منه الغيرة، وبات الرجل وقوسه الجميلة ليلة معشوقة كأنما هما الحبيبان يتغازلان. وما شهد قطرات الندى على جسدها الأملد، حتى أسرع إلى ثوب من المخمل يلفها به.
كساها حفيٌّ بها عاشق؟
إذا أفرط الحب يوما قتل
فألبسها الدفء ضنا بها..
وبات قريرا.. عليه سَمَل
ولبثت القوس في صحبة باريها دهرا، تمتع بأيامها وليلاتها، ناعما برفقتها على بؤسه وفقره، كأنما هي الجنة أفاءت بظلها وتدلت بأثمارها، فهي تصاحبه في هجير القفار وفي ظلم الليل أنى نزل، فيحرسها وهي في أمنه، وتحرسه هي أن أخذته غواشي الرجل، فكنت تراه في صحبة قوسه الحارسة يجوب الوهاد، ويعلو النجاد، ويأوى الكهوف، ويرقى القلل، ويفضي إلى مستقر الختوف، فهاهنا نمر وهاهنا ذئب وهنالك الحية الفاتكة.. وفيم الضرب في تلك المجاهل التي لم يكن بها من أنيس؟ إنه أراد أن يعلم قوسه الحبيبة كيف كان الزمان وكيف كان مجد القديم، وكيف كانت ظروف الدهر، وهكذا لبث الرفيقان، حتى حان موسم الحج، فلبيا.
وبين الحجيج رآها الخاطب الذي لم يزل بصاحبها أغراه بالمال حتى نالها منه، لكن القوس كائن حي ينتزع من كائن حي، فكأنها كانت تحس ما يجري فتنظر إلى سيدها وباريها لتدعو: يا خليلي! ماذا فعلت؟ أأسلمتني؟! فتنهش الحسرة قلب الرجل نهشا، ويتردد ويتراجع، فيزيد الخاطب من مهر عروسه.
وحولهما زفرات الزحام، وأذن تميل، ورأس تطل وغمغمة، وحديث خفي، ونغيه زار، وآت سأل.
وظل الرجل الحيران يحاور نفسه من داخل: أيبيع قوسه؟ نعم، لا! وحوله أصوات الزحام: صوت أجش، وصوت يصل، وطنين، وهمس، وضوضاء وعوعة في زجل (الزجل هو الجلبة كأصوات اللاعبين) فهذا يؤج.. وهذا يمج.. وهذا يخور.. وهذا صهل، وماذا تقول هذه الأصوات الصاخبة هنا وهناك، تقول:
لقد باع! بع! باع! لا لم يبع
غني المال! ويحك! بع يا رجل!
وهكذا تقرأ لشاعرنا شاكر صفحتين كاملتين فيهما حركة وجلبة وأصوات، وأخيرا يستسلم الرجل ويبيع، وهنا يجيء آخر بيت من قصيدة الشماخ كأنه الرتاج يخبط الخبطة الأخيرة ليقفل الباب ويبدأ الرجل في ذهوله لما أن رأى منكبه قد تعرت عن قوسها، يقول الشماخ في ختام قصيدته:
فلما شراها فاضت العين عبرة
وفي الصدر حزاز من الوجد حامز
نعم باع الصانع صنعته، وضاع من الفنان فنه، فأخذته الغاشية:
أجل.. لا.. أجل بعتها ! بعتها !
أجل بعتها ! بعتها.. لا.. أجل
وفي أذنيه ضجيج الزحا
م، و«بع باع بع باع بع يا رجل»
أفق ! ياخليلي ! أفق لا تكن
حليف الهموم صريع العلل
بصنع يديك تراني لديك
في قد أختي ! ونعم البدل
صدقت صدقت ! نعم قد صدقت!
وسر يديك كأن لم يزل
حباك به فاطر النيرات
وباري النبات ومرسي الجبل
فقم! واستهل وسبح له
ولب لرب تعالى وجلوفاضت دموع كمثل الحميم، لذاعة، نارها تستهل وخانقة ذبحت صوته، وهيض اللسان لها وأعتقل وأغضى على ذلة مطرقا، عليه من الهم مثل الجبل أقام.. وما أن به من حراك، تخاذل أعضاؤه كالأشل.
وبعد أن مرت به ساعة الذهول التي قد صيرته وكأنه صخرة نبتت مكانه، فبأت تمثال حزن قد من صخر صلود، وتركته وحيدا بعد أن خلا المكان من جموع الناس، وسكن الصوت ومات الوغى، أخذ الذاهل يفيق، ويستجمع نشاطه وقوته، ويمشي ثقيلا، والحسرة ما تزال ملء ضلوعه، ينظر إلى ما أخذه لقاء قوسه من مال وثياب، فيزور لأنه أعطى النفس ورضي بالخسيس.. وبينا هو يشق طريقه في متشابك الشجر، لمح عودا كالعود الذي كان سواه قوسا وضاع، أنها عروس أخرى، نادته من خدرها:
أفق ! ياخليلي ! أفق لا تكن
حليف الهموم صريع العلل
بصنع يديك تراني لديك
في قد أختي ! ونعم البدل
صدقت صدقت ! نعم قد صدقت!
وسر يديك كأن لم يزل
حباك به فاطر النيرات
وباري النبات ومرسي الجبل
فقم! واستهل وسبح له
ولب لرب تعالى وجلأما بعد فهذه قصة شاعر عن شاعر عن قواس عابر، قصة تروى أن سعادة الإنسان هي في أن يعمل ما يحب، أما إذا عمل شيئا وأحب شيئا آخر، فقد أصبح العمل بهذا الفصام نقمة ابتلي بها البشر وما كان ينبغي له، وفي هذا الصدد أذكر الأدباء الطوباويين ممن أعرف، مثل صموئيل بتلر في كتابه «أرون» (أي اللامكان) حيث يقص علينا كيف زار بلد النعيم فإذا سر النعيم هو أن العمل فن وأن الفن عمل، فلكل إنسان من العمل ما يحب، وبهذا تزاح الفواصل بين اللعب والجد، وبين الوسيلة والغاية… وهذه هي نفسها الرؤيا التي أختلج بها قلب شاعرين عربيين: الشماخ في صدر الإسلام، ومحمود شاكر في دنيا اليوم، وتوصل الشاعران حتى لكأنهما شاعر واحد أنشد في أول الدهر نشيدا فرجعت أواسط الدهر أصداء النشيد وإني لأستأذن أديبنا شاكر في أن أهدى آيته هذه إلى شعراء اليوم ليروا بآذانهم وليسمعوا بعيونهم – إذا كانت للآذان رؤية وإذا كانت للعيون سمع – كيف يكون الفن الشعري صياغة وارتفاعا في دنيا القيم من حضيض إلى أوج.
* * *
رحم الله الرجال الثلاثة فقد أبدع كل واحد منهم فيما كتب، وكانوا رسل ثقافة ومعرفة كل في الطريق الذي سلكه من بين طرق التعبير. وقد أجاد د. زكي نجيب محمود غاية الإجادة في عرضه للقوس العذراء حتى لقد أضفى عليها رداء من الجمال قد لا يحيط به القارئ العادي، ولا عجب في ذلك فهو أستاذ جامعي قدير، وأديب وفيلسوف تشهد له مؤلفاته ومواقفه.
وختاما، فإنني أشكر الأخ العزيز د.عبدالله يوسف الغنيم، والأخ العزيز د.سليمان إبراهيم العسكري اللذين أمداني بمراجع وافية دلتني على أعمال د.زكي نجيب محمود أثناء وجوده في الكويت.
كما لا يفوتني الثناء على الدكتور صاحب المقال الرائع الذي عرضته هنا.
أما العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر، وصديقه الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، فإن مما يكفي للدلالة على مكانتهما القصيرة التي قالها هذا الشاعر في استقبال صديقه الأستاذ حين زار الكويت لأول مرة في سنة 1972م، وألقاها في منزلي، ومنها:
وتكلمت حبات رمل البيد حي
ن نزلت ضيفا في قلوب رجالها
وسمعتها، وسمعت أنت حديثها
ورأيت مثلي ما يدور ببالها
كذب اللقاء، فأنت نبض رياحها
واباء تلعتها، وكبر رجالها
وحديث من غبروا، وشباباتهم
بيدك سحر يمينها وشمالها
تعب الخلود ومل حتى زرتها
فرددنه نشوان فوق رمالها
تتلو عليك قصيدها، فتخاله
هو عازف الأشعار في آصالها
وتجند الأسمار وخزة نارها
تشوي أباطيل المدى بنصالها
وتهب في الظلمات تردع ليلها
حتى لو احتستك في أغلالها
تعنو العقول، ووجه عقلك أصيد
كالشمس مرصود على أوصالها
أفأنت ضيف أديمها وهوائها
أم أنت عزف سكونها وملالها
أم أنت رجف جراحها في غمرة
حشرت بها النكبات كل صلالها
أم أنت حرف الضاد في لهواتها
وعلى مرابضها، وفوق تلالها
أوغلت في أعماقها وسكنتها
فجرا يحوم دائما بخيالها
ووقفت بالمرصاد، كل مجهل
يلغو، ترد لها الصدى بنبالها
يرحم الله الجميع.