بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم
قرأت في جريدة «الأنباء» الغراء خبرا نشرته في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق الثاني من شهر سبتمبر 2025م، كان خبراً من الأخبار المهمة التي يترقبها المواطنون من أجل تأثيرها المهم في حياتهم. وكان هذا الخبر يشير إلى وجود توجه حكومي إلى إقامة مشروع مهم يتضمن إنشاء مصنع يقوم بتعبئة المياه من الآبار الشاطئية ذات الجودة العالية، وذلك بواسطة محطة تقام لهذا الغرض تنتج ما مقداره مليون جالون من المياه العذبة يوميا.
وهذا أمر جيد سيفيد البلاد كثيرا لأنه يضيف كمية كبيرة إلى المياه العذبة المتوافرة لدينا حاليا، كما يقلل حجم المياه المعبأة في قوارير التي تستورد من الخارج بكميات كبيرة. ومن أجل هذا، فإن الأمل يبقى معقودا على استعجال البحوث المؤدية إلى إنجاز هذا المشروع المهم، مع كل ما يتعلق به من معدات وإنشاءات.
وليس تنفيذ هذا المشروع صعبا على الأجهزة الحكومية المختصة عندنا، لأنها ذات تجارب مهمة وناجحة في هذا المجال، ولقد كان من أهم المشروعات المائية التي تمت عندها هو مشروع تعبئة مياه نبع الروضتين الذي مضت على إنشائه سنين طويلة، ولا يزال يوالي نجاحه سنة بعد أخرى.
ومن هنا نعلم أن الخبرات الكويتية قادرة على إقامة المشروع المنتظر الذي سيوفر للبلاد كمية مهمة من مياه الشرب، وهو في الوقت نفسه ذو مردود اقتصادي مهم. ويبدو أن هذا المشروع، الذي أعلنت عنه جريدة «الأنباء» على صفحتها الأولى في التاريخ المذكور فيما سبق، مشروع أعد له بشكل جيد، وأجريت بشأنه دراسة مسبقة أثبتت مدى الفائدة من إقامته. ومن الإشارات التي تدل على ذلك ما جاء آخر الخبر المشار إليه، وهو:
وأشارت المصادر إلى «الأنباء» أن مشروع مركز تحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة ذو طبيعة إستراتيجية وتنموية تترجم مكونات الخطة التنموية لدولة الكويت عن طريق تقليل الاعتماد على النفط وإطالة عمره للأجيال المقبلة، بالإضافة إلى تقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الضارة بالبيئة. وأوضحت المصادر أن المشروع يهدف إلى تحقيق بيئة معيشية مستدامة من خلال بناء نموذج متكامل لمركز بحثي متطور لتحلية المياه باستخدام الطاقات المتجددة عبر تأسيس محطة نموذجية لإنتاج مليون غالون إمبراطوري يوميا من المياه العذبة باستخدام الطاقات البديلة واستخراج الأملاح والعناصر ذات القيمة الاقتصادية من المياه عالية الملوحة والناتجة عن عمليات التحلية، وإقامة مصنع لإنتاج 36 ألف عبوة بالساعة من الآبار الشاطئية ذات الجودة العالية.
وذكرت المصادر أن المشروع الذي سينتهي في العام 2029 سيكون له دور في تأسيس محطة تجريبية لإنتاج المياه العذبة باستخدام الطاقات البديلة، وإنشاء وحدات بحثية لتجربة التقنيات الحديثة.
وبصفتي مواطنا يسره قيام مثل هذا المشروع المهم، ومن أجل الدلالة على تأييدي له، وتقديري لمن فكر فيه ثم قام بدراسة جدواه، فإنني أود أن أذكر هنا بعض الأمور التي اطلعت عليها في دراستي للأماكن الكويتية، وعند تأليفي لكتابي الأول: «كاظمة في الأدب والتاريخ» في سنة 1958م وهو الذي أعدت طبعه في سنة 1995م. وكذلك الأمور الأخرى التي عرفتها بالسماع من بعض المراجع البشرية، وما هذا الذي سأشير إليه إلا ملاحظات عابرة تتعلق بموارد المياه القديمة في الكويت مما أتمنى بذكره لفت الأنظار نحوه، فإن كان ما سأقدمه غائبا عن الأذهان، فإن من مصلحة المشروع المنتظر أن يؤخذ ما سأذكره بعين العناية، وإن كان معروفا لدى القائمين على المشروع، فلا بأس من ذكره. وهذا من أجل أن يطلع عليه من لم يعرفه من قبل.
ومما ينبغي أن أذكره قبل الدخول على ذكر الموارد المائية التي أنوي ذكرها، فإنني أذكر أن أكثر ما سيأتي ذكره فيها قد توقف استخراج المياه منه، وذلك لأسباب أهمها الاعتماد الكلي على تحلية مياه البحر. كما أذكر أنني سوف لا أعرض شيئا عن موردي الروضتين والصليبية، لأنهما قائمان إلى يومنا هذا.
٭ ٭ ٭
كانت الكويت – قديما – تعتمد في سد حاجتها من الماء على موارد طبيعة (آبار) أساس وجود الماء فيها ما يهطل من أمطار في فصل الشتاء.. وكان إلى جانب الآبار ما يُطلق عليه اسم السد وهو في الطرف الشمالي الشرقي لقرية حولي قبل أن تتحول إلى مدينة في الوقت الحاضر. وهو حفرة واسعة تجتمع فيها مياه الأمطار وتبقى طوال فترة الصيف. وقد اكتشفت مياه عذبة في هذه القرية في ذلك الزمان غير هذا السد وهي عبارة عن آبار، وقد فرح الناس يومذاك باكتشافها، وقال أحدهم شعرا يتحدث عنها فيه:
ماء الحولي مثله ما دارا
من حسنه قد ضيع الأبصارا
وكان في العاصمة – داخل السور الثالث آبار في موقع يُطلق عليه اسم: غميضة، وكان غزيرا وعذبا. وموقع هذا الماء الذي كانت الناس تحصل عليه من بضع آبار في الساحة القائمة الآن أمام المدخل الغربي لمجمع أسواق الصالحية الكبير وقد ذكره الشاعر الكويتي ضويحي بن رميح المتوفى سنة 1907م ضمن قصيدة له، فقال:
نفسي بوسط الكويت إتصير مبهوجه
بلادي اللي من الأوطان مغليها
أخير من شوف ابو عينين وبروجه
شوفة غميضه ومسكنها وأهاليها
ومن موارد المياه في العاصمة ما هو في الموقع الذي كان يسمى: الزنطة، وكان موقعه أمام الموقع الذي يحتله اليوم قصر العدل ويمتد حتى الشارع المؤدي إلى السوق وهو الواقع في شمالي هذا المكان، وكانت فيه عدة آبار تسقي سكان المنطقة المحيطة بها، ثم صارت حيا سكنيا مجاورا من جهة الغرب لفريج الشاوي المعروف في العاصمة.
ومن موارد المياه مورد كانت المنطقة الشرقية من العاصمة تحصل منه على المياه العذبة وهو ما يسمى: أبودوارة، وكان مجموعة من الآبار في منخفض من الأرض موقعه على شارع السور عند الموقع المحاذي لقصر دسمان.
ومن الموارد المائية القريبة من العاصمة: موقع الشامية وهو موقع لايزال محتفظا باسمه، وقد اصبح عامرا بالمساكن والسكان، ولكنه كان خاليا إلا من الآبار التي يأتي إليها السقاة من أصحاب الإبل والحمير لنقل المياه منها إلى العاصمة، وقد اتخذوا ذلك مهنة لهم في ذلك الزمان.
وهناك أيضا موارد المياه التي كان يطلق عليها اسم: كيفان وتقع – أصلا – ضمن منطقة عبدالله السالم الحالية بالقرب من مسجد السهول المعروف الآن. ولقد نقل اسم كيفان فيما بعد بواسطة دائرة بلدية الكويت إلى منطقة كيفان السكنية المعروفة اليوم.
ومن الأماكن اللصيقة بالعاصمة منطقة الدسمة، وكانت فيها زراعات تروى بمياه آبار غير عميقة ولكنها غزيرة المياه، وأمامها شمالا عبر سور الكويت الثالث مساحة واسعة كانت فيها مزارع، وقد أطلق الأهالي على هذا المكان اسم: باب الهوى بسبب ما يجدونه فيه من مظاهر الجمال الطبيعي الذي تتوجه الزراعة.
وننتقل بعد هذا إلى ذكر الموارد المائية البعيدة نسبيا عن العاصمة، وهي – جغرافيا – تكاد تنقسم إلى قسمين القسم الأول منهما يمتد غربا، ويمتد القسم الثاني جنوبا ويشتمل القسم الغربي على ما يلي:
1 – الجهراء:
الجهراء وينطقها الأهالي – الجهرة، موقع معروف منذ قديم الزمان، جاء ذكره في الشعر العربي القديم، ومن ذلك قول الشاعر عبدالله المرداسي، وكان من شعراء القرن الثالث الهجري:
هل تعرف الدار بالجهراء قاوية
بين البحار وبين الهضب ذي الحمم
(قاوية: بارزة).
تمتاز الجهراء بزراعاتها، وغزارة مياهها، وقد كانت فيها مزارع كثيرة وواسعة تسقى بمياه آبار غزيرة لا تنضب. وقد توقفت هذه المزارع نسبيا، ونمت تلك القرية فصارت مدينة عامرة، وهي الآن مركز محافظة يحمل اسمها بعد أن ضمت إليها بعض المناطق القريبة منها. ولا شك في أن المياه التي كانت تسقي تلك المزارع لاتزال في باطن الأرض تنتظر من يستخرجها.
وإضافة إلى ذلك فإن أهالي الجهراء يستقون مياه الشرب من آبار حلوة في مكان يطلق عليه اسم: السليل، وهو في غربي البلدة. وينقل هذه المياه سقاة يمتهنون هذه المهنة. وهذا الموقع معروف حتى الآن.
وكان في الكويت – قديما – من مصادر للمياه في شرقي الجهراء ابتداء من منطقة كاظمة الخالية الآن من السكان.
ومن المهم أن أقدم كل ما تعيه ذاكرتي من معلومات عن كاظمة وما كان يحيط بها من الأماكن، وعلى الأخص تلك التي تحتوي على مصادر للماء العذب، وأنا هنا أوجز الحديث في هذا الشأن ذاكرا أن حديثي هذا ينصب على الفترة الزمنية التي كانت بين سنتي 1945م و1950م، وتلك الفترة هي التي كانت إحدى الأسر الكويتية تسكن فيها هناك على ساحل البحر لأسباب تتعلق بحراسة الموقع، وقد عرفت هؤلاء جميعا وصارت لي ولأسرتي بهم صلات طيبة لمدة طويلة بعد ذلك التاريخ، وقد نزحوا بعد ذلك إلى المدينة مع بقاء اتصالنا معهم، ومما يجدر بي ذكره هنا أنني التقيت بابنهم في فترة لاحقة، وتحدثت معه عن كاظمة ونشرت حديثه في إحدى صحف الكويت، ويؤسفني أنه انتقل إلى رحمة الله، غفر الله له.
وهذا هو بعض ما دار بيننا من حديث:
سألته:
– كنتم تسكنون في موقع بعيد عن العمران. فكيف كنتم تحصلون على ماء الشرب آنذاك؟
– كنا نحصل عليه من موقعين هناك، وهما:
1 – نبع ماء داخل البحر بالقرب من الساحل، وهو غير بعيد منا، فنحن – أيضا – نسكن على الساحل نفسه، فكنا نذهب إليه بواسطة قارب لنا (هو ري) نضع فيه الأواني الخاصة بنقل الماء، ثم نغترف من النبع حتى نملأها. وكان ماء عذبا يسد حاجتنا، ثم أغلق بواسطة غطاء اسمنتي سميك بأمر من الحكومة آنذاك، وبسبب لا نعرفه.
2 – والثاني نجده إلى الشمال من كاظمة، وبالتحديد فإننا كنا نراه على مرتفع جال الزور المقابل لكاظمة من ناحية الشمال. وهذا هو المرتفع الممتد من المطلاع غربا إلى الموقع الذي ذكرته شرقا.
وفي جهة من جانب هذا المرتفع يتسرب ماء عذب نأخذ منه حاجتنا بعد أن تم إغلاق المصدر السابق ذكره وكان ما نأخذه من جال الزور كافيا لحاجتنا تماما.
٭ ٭ ٭
ويقال إنه كان في الكويت قديما مصدر مائي في غاية الأهمية، لأنه لم يكن بئرا أو مجموعة من الآبار مهما كانت غزارتها، بل هو نهر سائل موصوف في الكتب القديمة.
ومما ينبغي التذكير به حوله هو ما قمت بنشره في اليوم السادس من شهر يوليه لسنة 2011م، عن نهر الكويت الخفي، وهو نهر ورد ذكره في أكثر من مرجع، منها ما ورد على هامش ديوان المثقب العبدي، وهو شاعر جاهلي قديم، وكان تعليقا على قول هذا الشاعر:
مررن على شراف وذات هجل
ونكبـــن الـذرانـــح باليمــــين
وهذا الذي ورد على هامش الديوان المخطوط المحفوظ في دار الكتب المصرية نقرأ منه ما يلي: «الذرانح: نهر بين كاظمة والبحرين».
أما المرجع الثاني فهو خريطة من الخرائط التاريخية رسمها الأخوان أو تنز، وقد وردتنا صورتها مع بيانات منها في كتاب أخي د.عبدالله يوسف الغنيم الذي صدر بعنوان: «الكويت في الخرائط التاريخية»، ومما ورد في وصف هذه الخريطة قوله:
«وتضمنت الخريطة أسماء عدد من المواضع القريبة من كاظمة التي لم نستطع التعرف عليها، كما تضمنت النهر الذي تكرر رسمه في خرائط القرنين السابع عشر والثامن عشر».
هذا، وفي مقالنا المشار إليه بيانات أكثر وضوحا ودلالات قاطعة على وجود هذا النهر الذي أزاله الزمن.
ولنا تعليق على ما قيل عن هذا النهر فمن الكتاب من أنكره ومنهم من أثبته، أما من أثبته فقد ذكر أنه يمتد من البصرة إلى الأحساء، وهذا كله في المراجع الأجنبية: ولكن المرجع الذي أشرنا إليه وهو عربي أولى بالتصديق لأن امتداد النهر من البصرة إلى الأحساء غير معقول فشكل الأرض لا يسمح به، وأقرب الظن أن يكون الصواب هو ما ورد في حاشية ديوان المثقب العبدي المخطوط. وقد يكون نابعا من المكان الذي سبق وصفه وكان الماء يتحدر فيه من جال الزور، ولكن مرور الزمن وتغير شكل سطح الأرض في هذا الموقع أدى إلى ضمور هذا المورد. ومن قال الذرانح مرتفع فما أخطأ لأن الموقع الذي ذكرناه مرتفع.
أليس من المهم مراجعة هذا الأمر مراجعة علمية تعتمد على الوسائل الحديثة المعتمدة في البحوث المماثلة؟
كما أنه من المهم البحث عن نبع الماء البحري الذي مر بنا ذكره في السطور السابقة، حيث تبين لنا بشهادة شاهد كان يستفيد منه قبل إغلاقه. ولن يصعب على الباحثين في وقتنا هذا العثور عليه بواسطة وسائلهم الخاصة.
ومن المهم – أيضا – البحث عن المصدر الآخر من مصادر الماء في كاظمة، وهو الذي يتدفق منه الماء منبعثا من مرتفعات جال الزور التي وصفناها آنفا، وقد غطاها التجريف حين صاروا ينقلون الأتربة من هناك لاستعمالها في صناعة الطابوق الجيري. وهذا يتم في حالة ما إذا لم نتمكن من العثور على إثبات للنهر الخفي.
ونضيف – بعد كل ما تقدم – شيئا مما يتعلق بمصادر المياه في كاظمة وما حولها فنذكر ما يلي:
أ – مجموعة آبار أطلق عليها اسم «المعترضة» بسبب اعتراضها للطريق العام المؤدي إلى الصبية وما بعدها. وتقع في منخفض من الأرض بين كاظمة وجال الزور، وهي غير عميقة الغور، ولكن ماءها غزير، يستقي منه المارة، كما يسقون مواشيهم. وهو قليل الملوحة.
ويعتبره الكتاب القدماء جزءا من كاظمة، ولذا فإننا نجد ياقوتا الحموي عندما يذكر كاظمة في كتابه معجم البلدان يقول: «وماؤها شروب (غير تام العذوبة) واستقاؤها ظاهر»، وهذا القول ينطبق على آبار المعترضة.
ب – وأسفل منها – غربا – نجد موردا للماء مشابها لها في عدة آبار غير عميقة، يشبه ماؤها ماء آبار المعترضة التي مر ذكرها، وهذه المنطقة تسمى: الخويسات، والخويسات مجموعة من شجر النخل غير تام النمو، نبتت بلا فاعل معروف.
٭ ٭ ٭
ونرجع مرة أخرى إلى غربي كاظمة وما حولها فنجد من الأماكن السادة، وكان هذا الموقع يسمى: السيدان، وقد ذكرت المراجع العربية القديمة أنه ماء لقبيلة بني تميم، وبالقرب منه مياه مجتمعة من الأمطار أطلقوا على موقعها اسم: أغدرة السيدان، والأغدرة جمع غدير، واللفظ معروف في لهجتنا.
وإذا انتقلنا من المواقع التي تشمل الجهراء وما حولها فإننا سنرى إلى الغرب منها: الشقايا، وهو موقع معروف فيه الآن ماء غزير مفيد للزراعة وسقي الأغنام.
وكان يعرف منذ زمن طويل باسم الشجي، ومما يدل على أنه الشقايا هو ما جاء في الكتب التي وصفت الطريق إلى هذا المكان. وأكثر من ذلك فإن اسم الشجي كان يطلق على مساحة أكثر اتساعا من الشقايا الحالية.
ولئن كان ماء الشقايا قد تم اكتشافه في سنة 1963م، فإنه معروف منذ زمن طويل، ولكن تغير طبيعة الأرض والأجواء قد غيرته عما كان عليه. وأصل البحث القديم عنه كان في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي (660م/719م) وقد جاء الحديث عن اكتشافه هذا كما يلي:
«مات قوم بالشجي عطشا في أيام الحجاج، والشجي منزل من منازل طريق مكة من ناحية البصرة، فاتصل خبرهم بالحجاج»، فقال: إني أظن أنهم دعوا الله حين بلغ بهم الجهد، فاحفروا في مكانهم الذي كانوا فيه لعل الله أن يسقي الناس. فقال رجل من جلسائه: وقد قال الشاعر:
تراءت له بين اللوى وعنيزة
وبين الشجي مما أحال على الوادي
وما تراءت له إلا على ماء وقد صح عزم الحجاج حين سمع هذا البيت وهو للشاعر امرئ القيس. وبدأ في تنفيذ ما خطر له، يقول ياقوت: «فأمر الحجاج عبيدة السلمي أن يحفر بالشجي بئرا فأنبط ماء لا ينزح».
٭ ٭ ٭
وعندما نتجه إلى جنوبي العاصمة بعد مرورنا بالأماكن القريبة منها مثل الدسمة وحولي، فإننا نسير إلى عدة قرى قد تغيرت هيئتها الآن فصارت مدنا كبيرة كثيرة السكان عامرة بالخدمات المختلفة والأسواق والحدائق وغير ذلك.
وكان القسم الأكبر منها الذي يقع على الساحل يعرف باسم: القصور وقد زال الاسم الآن، ولكن الدولة احتفظت به حين أطلقته على منطقة سكنية منظمة حديثا ضمن محافظة مبارك الكبير.
وعن موارد المياه القديمة في منطقة القصور التي ذكرتها هنا سألت واحدا من أبناء هذه الناحية، وهو الأخ العزيز علي محمد سيف البراك الرجل الفاضل الذي كان له دور مهم في الخدمة العامة للوطن، إذ تولى منصب وكيل وزارة التربية ابتداء من 25 مايو لسنة 2007م، ثم تم اختياره وزيرا للصحة العامة، وهو مثقف ذو دراية بتاريخ الكويت سياسيا واجتماعيا.
وقد أجابني وأنا شاكر له فقال:
1 – تقع على يمين المتجه من العاصمة إلى الجنوب أول منطقة مشهورة بمياهها وهي المسيلة، ويطلق عليها البعض اسم: المسايل، وذلك لكثرة ما تمر بها من سيول الأمطار متجهة إلى البحر.. وهي الآن عامرة بالسكان، ومقرها في الزاوية الشرقية الشمالية بين طريق الفحيحيل والطريق الدائري السادس.
2 – الفنيطس، وتأتي بعد الموقع السابق ذكره، وقد كانت قرية فيها بئر ماء عذب يستفيد الناس بمائها، وقد بقيت فترة من الزمن خالية من السكان، ولكنها عامرة بالذين يذهبون إليها للنزهة، وكان مما فيها من الأنشطة: المخيم الكشفي الذي تقيمه وزارة التربية في كل سنة، ويتدفق عليه الزوار كل مساء. وفي جزء من موقع الفنيطس ممر لماء المطر ينساب بواسطته إلى البحر. وفيها بضع آبار عذبة المياه حفرها أصحاب الاستراحات المبنية هناك.
3 – ثم بعد ذلك تأتي قرية العقيلة لسالك الطريق المؤدي إلى الجنوب، وتكون على يمينه. وكانت قرية عامرة ثم خلت من سكانها، وعادت اليوم بصورة جديدة.
4 – وبعد ذلك تأتي قرية الفنطاس التي صارت الآن مدينة متكاملة، وهي على يسار الطريق المذكور، وكانت بها آبار تسمى العدود، وهي جمع عد، وهو الماء الغزير السائغ للشرب ضمن بئر. وهناك بضع آبار كان يستفاد منها في الحصول على مياه الشرب موقعها بقرب مقر الجمعية التعاونية الحالي، وهذا بخلاف الآبار التي جرى حفرها في المزارع، وهذه ماؤها غير سائغ للشرب ولكنها تفيد في ري الزروع. وعلى كل حال فإن هذه القرية كانت ملآى بموارد المياه وفيها الصالح للشرب، وغيره.
5 – وإلى جوار الفنطاس تأتي المهبولة وهي مسكونة الآن، وتبعد عن العاصمة مسافة 32 كيلومترا، ولم تكن فيها مساكن في السابق، وإنما هي أرض خالية تمر بها سيول الأمطار بغزارة، فتنبت فيها أنواعا من النبات كثيرة وكثيفة. وقد جاء اسمها من اسم عربي قديم لمثلها، إذ كان العرب يطلقون على الأرض كثيفة النبات اسم: المجنونة.
6 – أبو حليفة قرية تأتي بعد الفنطاس، بها بئر ماؤها عذب، يستمد منها كل سكان القرية ماء شربهم، وكان مقر هذه البئر في منتصف شارع الرازي المعروف في يومنا هذا، وتوجد في مكان آخر من القرية بئر ماء غزيرة ماؤها غير صالح للشرب، ولكنه مما تشربه المواشي، وكافة المزارع التي كان الأهالي يملكونها تضم آبارا من هذا النوع.
7 – المنقف: قرية تلي أبو حليفة، فيها عدة آبار كلها في المزارع التي كان السكان يعتمدون عليها في معيشتهم، ولكن ماءها غير سائغ للشرب.
8 – الفحيحيل، وهي أكبر القرى الواقعة بعد تلك التي ذكرناها فيما مر بنا، وكانت فيها مزارع، وآبار غزيرة المياه، ولكنها مياه غير صالحة للشرب. والفحيحيل الآن مدينة كبيرة تنتشر في جنباتها المباني العالية وتعج أسواقها بأصناف السلع، وفيها الميناء النفطي المشهور.
9 – الشعيبة قرية قديمة تلي الفحيحيل كانت متكاملة من حيث توفيرها لحاجات السكان من المدارس، وكذلك السوق، والمركز الصحي، وغير ذلك. وكانت فيها آبار ماؤها غير سائغ للشرب، وفيها عدد ضئيل من الآبار التي تتميز بعذوبة مائها، وكان أهلها يعملون في الزراعة، وفي كل ما يتعلق بالبحر من صيد للأسماك واللؤلؤ، وغير ذلك وقد أزيلت هذه القرية بكاملها بسبب تلوث أجوائها بالغازات المنبعثة من أعمال تكرير النفط، وحلت محلها هيئة الشعيبة المختصة بالصناعات النفطية. وانتقل السكان إلى منطقة الصباحية التي أنجزت لكي تحل محلها.
وبعد الفحيحيل والشعيبة يأتي ميناء عبدالله، وهو ميناء بحري وأمامه – غربا – يأتي حقل نفط برقان وحوله بعض موارد المياه وأمام ميناء عبدالله – إلى الغرب منه – طريق يؤدي إلى الوفرة المشهورة بمزارعها التي تسقى بمياه الآبار الغزيرة هناك، وهي تبعد عن العاصمة مسافة تبلغ 96 كيلومترا، ولكن مزارعها تبعد مسافة 111 كيلومترا، وهي التي تضم الآبار التي ذكرناها هنا.
وإلى الغرب نجد عدة أماكن تمتاز بغزارة المياه فيها، وهي كلها تحيط بمنطقة برقان النفطية المشهورة عالميا، وقد ذكر هارولد ديكسون القنصل البريطاني القديم في الكويت واحدا من هذه الموارد اسمه الطويل، وهو يبعد عن العاصمة مسافة 66 كيلومترا، وقال إن رعاة الأبل الكثيرون – قديما – كانوا يجدون آبارا ممتلئة بالمياه في هذا الموقع حيث يتمكنون من سقيا جمالهم وباقي مواشيهم.
وبالقرب من برقان يقع جبل وارة الشهير، وبقربه آبار غير عميقة يطلق عليها اسم: امشاش وارة، ولفظ امشاش يدل على مثل هذه الآبار المتقاربة غير العميقة التي تمتلئ في موسم الأمطار، وتكون عادة في مجرى السيول، وفي هذا الجانب من البلاد نرى موقع الصبيحية الذي كانت فيه مزارع كثيرة وآبار مياه ملآى، ولكنها غير صالحة للشرب وتبعد الصبيحية عن العاصمة مسافة 74 كيلومترا.
وفي جزيرة فيلكا مياه عذبة شاهدتها، وقرأت وصف هارولد ديكسون لها، فقد كتب قائلا:
«وتوجد (بها) مياه صالحة كثيرة في أنحاء مختلفة من الجزيرة، وعلى عمق ستة أقدام فقط، وهذه المياه أفضل من مياه الآبار في ضواحي الكويت».
وهناك خبر قديم عن الماء في فيلكا لابد من ذكره، وهو كما يلي:
بعد وفاة الشيخ صباح بن جابر في سنة 1779م تولى الحكم من بعده ابنه عبدالله بطل معركة الرقة، وفي عهده أتى إلى الكويت أحد الطامعين، ونزل في الشامية مانعا الماء عن البلاد في الوقت التي لم تكتشف فيه الموارد الأخرى التي ذكرناها.
ولم يؤثر ذلك في أهالي الكويت، لأنهم صاروا يجلبون مياه الشرب من جزيرة فيلكا، مما أدى إلى فك الحصار على آبار الشامية لأن الطامعين لم يجدوا لعملهم هذا أي جدوى، فرحلوا.
٭ ٭ ٭
قد يكون كل ما ورد في هذا الذي ذكرته معروفا لدى العاملين على المشروع المنتظر، وهو المشار إليه في بداية هذا الفصل. ولكنني قصدت بكل ما تقدم أمرين أولهما: الثناء على مقدمي الفكرة ومعدي الدراسة حولها والساعين إلى تنفيذها. وثاني الأمرين هو أنني أظن أن بعض ما ذكرته من أماكن قد لا يخطر على بال الباحثين لأن الأمر فيما أرى واسع، ولابد أن تتجمع الأفكار حوله.
أشكر كل القائمين على هذا المشروع وأشكر جريدة «الأنباء» التي أتاحت لقرائها فرصة العلم بذلك وأنا واحد من هؤلاء القراء.