حديثنا في هذا الفصل عن رجل من جيل لم يتكرر على الرغم من مرور قرون على القرن الذي عاش فيه، ولن يتكرر في زماننا بحكم دلالة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم…» إلى آخر الحديث الذي جاء فيه: «ثم تجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» رواه البخاري ومسلم، وحسبنا فيها راويان صادقان، وهذه شهادة من الرسول الكريم بالغة الأهمية للجيل الأول من المسلمين الذين تكبدوا المشاق في سبيل الإسلام، وآمنوا حين كفر الناس، وعانوا من المخالفين لهم أشد المعاناة ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم وكل ما يملكون، وأحاطوه بالتكريم وأطاعوه في كل ما أمرهم به، ووجههم إليه. وقد قال الله عز وجل فيهم وفي الرسول الكريم:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود)
الآية 29 من سورة الفتح.
والرجل الذي يشير إليه العنوان هو واحد من هؤلاء الذين أعزهم الله بالإسلام، ونقلوا إلينا كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن منزل وأحاديث هادية.
هذا الرجل هو خالد بن زيد بن كليب الخزرجي النجاري البدري الأنصاري، وقد اشتهر بكنيته، وهي: أبو أيوب الأنصاري. وهذا حديث عنه وعن جهوده في خدمة الإسلام منذ أن أسلم إلى أن توفي في سنة 52 هـ (672م) وكان إسلامه في وقت مبكر، وبالتحديد منذ ما قبل هجرة الرسول الكريم من مكة إلى المدينة، فقد كانت تحضر إلى الرسول الكريم وفود من أهل المدينة لكي يسمعوا منه – صلى الله عليه وسلم – ما يحدثهم به عن رسالة الإسلام التي أوحيت إليه، فكانوا يسلمون ويذهبون إلى أهلهم مبشرين بهذا الدين الحنيف، وقد كان أبو أيوب الأنصاري ضمن الفوج الثاني الذي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام والطاعة في جميع الظروف. وعندما عاد أفراد هاتين المجموعتين أرسل الرسول الكريم معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير لكي يشرح لهم تعاليم هذا الدين، وينشر الإسلام بين الباقين من الذين لم يتمكنوا من الحج ثم من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعلت المجموعتان اللتان ذكرناهما. وقد سميت بيعة الوفد الأول ببيعة العقبة الأولى وسميت الثانية ببيعة العقبة الثانية، والعقبة موقع في مبنى أقرب ما يكون إلى المكان الذي ترمي فيه الجمرات، وكان ممن بايعوا في العقبة الثانية أبو أيوب الأنصاري: خالد بن يزيد، وكان من الصدف الجميلة له أن صار مؤاخياً لأول الصحابة المهاجرين وصولا إلى المدينة مصعب بن عمير رضي الله عنه عندما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكان الفوز الأكبر لأبي أيوب هو ما حدث عند وصول الرسول الكريم إلى المدينة المنورة مما سوف نحكيه لاحقا.
وتبدأ هنا بداية جديدة ضمن هذا الفصل لنتحدث عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن ضاقت عليه السبل في مكة، وبعد أن أذن له الله عز وجل بالانتقال عن القوم الظالمين إلى موقع فيه أناس يحبهم ويحبونه، وينصرونه بكل ما يملكون من طاقة.
من أجل ذلك نسوق ما روته آمنا وأم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر رضى الله عنهما وعن أبيها في شأن ما حدث قبل تحرك الرسول الكريم إلى مهاجره فتقول:
«كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث! فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ. ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبدالله بن أريقط، وكان مشركا، يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكاننا عنده يرعاهما لميعادهما».
ومضى الركب الكريم في طريقه بعد أن اطمأن إلى عودة مطارديه خائبين.. ولم يلحق بالركب الذي فيه رسول الله إلا سراقة بن مالك لأمر قدره الله تعالى، فقد جاء طامعا في مائة بعير خصصتها قريش لمن يأتي إليهم بالنبي الكريم ومن معه، ولكن أملهم خاب فإن المعجزة التي حدثت جعلت سراقة بن مالك يصد باقي المطاردين، قائلا لهم إنه لا أحد في هذا الطريق، وذلك بعد ما حدث له عندما اقترب من الركب الكريم غرزت أقدام فرسه في الأرض، فهتف مناديا طالبا إنقاذه من هذا المأزق، فنجا من مأزقه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب لي كتابا تعرفني به إن جئت إليك فيما بعد. وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن نيته أن يسلم فيما بعد، فأمر أبا بكر بأن يكتب له بذلك وقال له: «اذهب ولك سوارا كسرى».
وفي هذا أيضا معجزة أخرى، فقد أسلم سراقة فيما بعد وانتقل إلى المدينة المنورة، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفاة الخليفة الأول أبو بكر الصديق، وتولي سيدنا عمر بن الخطاب الخلافة، وخوض المسلمين الحرب ضد مملكة كسرى وانتصارهم في تلك الحرب، كان مما جلبوه من الغنائم سواري كسرى، فتذكر سيدنا عمر بن الخطاب وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك، فأرسل في طلبه ووضع السوارين في معصميه، وبذا تحققت المعجزة الثانية من عدة معجزات حدثت خلال الرحلة النبوية الشريفة التي حرسها الله عز وجل منذ تحرك الراحلان من مكة إلى أن وصلا إلى المدينة المنورة. وكل ما جرى فيها يصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضى الله عنه: «ما ظنك في اثنين الله ثالثهما».
***
وصل الركب الكريم إلى المدينة المنورة بعد معاناة وصفها مؤلف كتاب السيرة النبوية: ابن هشام. واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك استقبالا لا نظير له. وكان حظ أبي أيوب الأنصاري باهرا إذ قبل الرسول الكريم أن يقيم معه في بيته، وفي هذا يقول أبو أيوب:
«ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت.
وقال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها، تنشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه.
(الحب: إناء يبرد به الماء وهو من الفخار، وكان مستعملا في الكويت باسمه هذا).
ثم وصف – رضي الله عنه – حاله أثناء إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقال:
وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك، نبتغي بذلك البركة. قال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى، فأما أنتم فكلوه.
قال: فأكلنا، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.
في السنة الخامسة للهجرة أغارت قريش ومن معها على المدينة واستعانوا بفصائل اليهود المقيمة بين ظهراني المسلمين ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اقتراح واحد من أصحابه بحفر خندق حول المدينة لحمايتها من هذا الجيش القادم فتم ذلك بتعاون المسلمين كلهم، ولقد خسر المشركون هذه الحرب، ولم ينالوا من المسلمين نيلا، فانصرفوا خاسرين.
ولم ينس رسول الله صلى الله عليه وسلم معاقبة اليهود على موقفهم هذا تجاهه هو ومن معه من المسلمين، وذلك لأنه كان قد أبرم مع كل فصائلهم عقودا على الموادعة وعدم الاعتداء ولكن الخيانة المتمكنة من نفوسهم دفعتهم إلى الوقوف ضد الرسول الكريم وضد المهاجرين والأنصار من المسلمين، فكان لابد لهم أن ينالوا جزاء خيانتهم لتلك العهود، وأن يكون هذا الجزاء على قدر ما فعلوا، وما نتج عن خيانتهم.
ولهذا السبب مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من خلفه إلى هؤلاء الخونة من أجل عقابهم بقدر ما اقترفوه من غدر.
وكان من أهم ما قام به صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن بعد ذلك هو مسيره بجيش المسلمين إلى خيبر وذلك في شهر محرم لسنة سبع من الهجرة النبوية الشريفة، وخيبر الآن بلد على بعد 168 كيلومترا إلى الشمال من المدينة المنورة.
حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وهم في حصونهم حتى يئسوا من الخلاص وأيقنوا بالهلاك، فأرسلوا وسيطا عنهم يسأل الرسول الكريم أن يسيرهم (بمعنى يجليهم إلى مكان بعيد عن المدينة)، وفي ذلك إبقاء على أرواحهم، فقبل ذلك وأجلاهم عن كل حصونهم. ولكن طبع اليهود في الغدر لا يزول عنهم، فعند انتهاء كل ذلك أهدت إليه امرأة يهودية شاة مشوية، يقول ابن هشام في هذا الأمر «وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: الذراع. فأكثرت فيه من السم، ثم سمت بقية الشاة، ثم جاءت بها، ووضعتها بين يدي رسول الله، فتناول الذراع فلاك منها مضغة، فلم يسغها، وكان معه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات بشر بن البراء في حينه لأنه ابتلع قطعة اللحم التي لاكها، ونجا رسول الله لأنه لم يبتلعها بل قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم».
ومن متعلقات هذه الجملة التأدبية قتل عدد ممن لهم أعمال سيئة سابقة أو ممن قاوموا بعد الاتفاق، ونتيجة لهذه المقاومة تم أسر عدد من النساء كانت منهن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب، وقد اعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تزوجها وكان لها موقف جيد أقبلت بسببه على الإسلام فأسلمت، ذلك لأنها قالت: سمعت أبي وعمي وهما يتحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأل عمي أخاه قائلا: هل تظن محمدا صادقا فيما يقول من أمر الدين الذي يدعو إليه؟ فيرد أبي: نعم إنه لصادق وإن ما جاء به مطابق لما ورد في كتبنا، وعندما سأله العم: لماذا لا نؤمن بما قاله، إذن؟ وقال: لا نترك ديننا أبدا.
وقد بقي هذا الحديث في ذهن السيدة صفية، وأسلمت في أول فرصة متاحة لها.
وفي مسألة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية بنت حيي، أمر يتعلق بأبي أيوب الأنصاري، وهو أمر له دلالة على مدى حبه لرسول الله، وخوفه عليه من أي خطر قد يحدق به. وسوف يأتي الحديث عن ذلك فيما بعد.
أما أم المؤمنين صفية، فآمنت إيمانا صادقا لا شك فيه، ومن أوضح الدلائل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين زوجاته حتى في أسفاره، فيصحب منهن من يصحب وفق ترتيب يعرفنه فيما بينهن، وهو ترتيب يكفل ألا تزيد واحدة على أخرى في حقها بمرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان في واحد من أسفاره، مصطحبا معه من زوجاته: السيدة أم سلمة والسيدة صفية، حدث ما يلي كما جاء في رواية الرواة:
أقبل صلى الله عليه وسلم إلى هودج صفية يكلمها وهو يظن أنه هودج أم سلمة. وكان ذلك اليوم هو يوم أم سلمة، فجعل رسول الله يتحدث إلى صفية، فغارت أم سلمة لذلك، وعلم صلى الله عليه وسلم بعد ذلك – أنه كان يخاطب صفية ولم يتبينها لأنها كانت داخل الهودج، فجاء بعد ذلك إلى أم سلمة، فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله؟
ولقد أسفت أم سلمة لتسرعها في القول، وندمت على ذلك ندما شديدا وقالت: يا رسول الله، استغفر لي فإنما حملتني على ذلك الغيرة.
وهذا الخبر يدل على أن السيدة صفية مؤمنة مخلصة للدين الإسلامي، وقد دخلت في حظيرة هذا الدين عن يقين تعرفه السيدة أم سلمة، ولذلك أبدت أسفها واستغفرت وتمنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لها. فقد اعتبرت أن ما قالته إنما هو زلة دفعتها إليها الغيرة.
***
أما الأمر المؤجل المتعلق بالصحابي الجليل سيدنا أبو أيوب الأنصاري، وكنا قد ذكرنا عنه أنه رجل من أوائل المسلمين من أهل المدينة المنورة، وأنه كان من المشاركين في بيعة العقبة الثانية ضمن الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع يقال له العقبة، وقد وصفناه، ونال مكرمة عظمى حينما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في بيته، والمؤاخاة التي جرت بينه وبين الصحابي الجليل الذي نال الشهادة في سبيل الله إبان معركة أُحد الشهيرة: مصعب بن عمير.
واستحق فضلا آخر فيما رواه الصحابي الجليل
أبو هريرة حين قال:
«لما دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بصفية، بات أبو أيوب على باب النبي، صلى الله عليه وسلم. فلما أصبح، فرأى رسول الله، كبر، ومع أبي أيوب السيف، فقال: يا رسول الله، كانت جارية حديثة عهد بعرس، وكنت قتلت أباها وأخاها وزوجها: فلم آمنها عليك. فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له خيرا».
وهذا الخير الذي دعا به رسول الله لأبي أيوب مذكور في روايتين إحداهما:
– اللهم احفظ أبا أيوب كما كان يحفظني.
والثانية:
– حفظك الله حيا وميتا، وسوف يأتي ما يدل على صدق هذه الرواية. ولنا حديث آخر عنها.
***
شارك أبو أيوب في جميع الغزوات التي دعا إليها الرسول الكريم، وفي هذا الشأن قال عنه محمد بن سعد في كتاب الطبقات الكبرى:
«شهد أبو أيوب بدراً (غزوة بدر)، ثم لم يتخلف عن غزاة، وقد كان من ذلك اشتراكه في الحرب التي شنها الخليفة الرابع سيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكانت ضد الخوارج».
والخوارج هم الذين أنبأنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: «يخرج قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
***
مضت الحياة بهذا الرجل الصالح، وحدثت خلالها أمور كثيرة شاهدها وشارك في بعضها وأعرض عن البعض الآخر، لأنه اجتهد بقدر استطاعته في الالتزام بما وجهه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه رفاقه من السلف الصالح من المسلمين الذين أسعدهم الله عز وجل بصحبة الرسول الكريم والسماع منه، وتلقى نصحه والجهاد معه.
ومن أجل أن نستعرض محطات حياته فإننا نذكر ما يلي:
أبو أيوب الأنصاري صحابي من بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اكتسب الأقدمية في الانضواء تحت لواء الإسلام بين أهل المدينة المنورة منذ أن بايع الرسول الكريم بيعة العقبة الثانية كما ذكرنا فيما مر بنا، وشهد كافة الغزوات التي تمت منذ هجرة الرسول الكريم ابتداء من غزوة بدر الكبرى، وبقي على دأبه في الجهاد في سبيل الله لم يتخلف يوما عن الدعوة إلى الجهاد.
روی محمد بن سعد في كتابه: «الطبقات الكبرى» شيئا عن حياة أبي أيوب قال فيه: «شهد أبو أيوب بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة بعدها». وكان حريصا خلال مشاركاته في الغزوات التي غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يكون حارسا للرسول الكريم خلال الليل والنهار مادام الجيش المسلم على أرض المعركة، وقد تبين لنا ذلك في الحديث الذي جاء فيه خبر يدل على هذا الذي ذكرناه.
وهب أبو أيوب للقتال في كافة الحروب التي جرت في أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول، ولم يخض مع الخليفة الرابع سيدنا علي بن أبي طالب إلا حربا واحدة وهي التي كانت ضد الخوارج، وقد ذكرنا ذلك آنفا.
ولقد كان علي بن أبى طالب، كرم الله وجهه، حريصا على إكرام هذا الرجل، وقد كلفه بمهمات منها إمارة إحدى المدن المهمة، وكانت له مكانة وحسن تقدير عند جميع المسلمين لما يعرفونه عنه من تعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرص على السير على النهج القديم الذي تلقاه منه، معتبرين أن إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته في بداية الهجرة مكرمة حظي بها ودليل رضا الرسول الكريم عنه:
عاش أبو أيوب الأنصاري إلى أن بدأ حكم الدولة الأموية التي كان أول خليفة تولاها هو مؤسسها: معاوية بن أبي سفيان، وقد تولى حكم الدولة الإسلامية مدة تسع عشرة سنة امتدت منذ سنة 41 هـ إلى سنة 60 هـ. ومن أحب أن يطلع على معلومات وافية ومحايدة وموجزة عنه فإنه سوف يجد ذلك كله في كتاب: «زعماء الإسلام» للدكتور حسن إبراهيم حسن.
في هذا الوقت وفد أبو أيوب على معاوية، وهي عادة متبعة في ذلك الوقت كان كل البارزين في عصره يقومون بها، ولقد كان في زياراته محافظا على ما كان عليه من الحرص على كرامته ومكانته في كل الظروف.
ومما قيل في شأن حرصه على أن يبقي على كرامته، وعدم التنازل لأحد مهما كان عن المستوى الكريم الذي وصل إليه بصفته واحدا من السابقين إلى الإسلام، وممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ما روي عنه فيما يلي:
«قدم (أبو أيوب) على معاوية، فأجلسه معه على السرير، وحادثه، وقال: يا أبا أيوب، من قتل صاحب الفرس البلقاء التي جعلت تجول يوم كذا وكذا؟ قال: أنا: إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر. فنكس معاوية، وتنمر أهل الشام، وتكلموا. فقال معاوية: مه! وقال: ما نحن عن هذا سألناك».
هذا ولقد كان الجهاد في سبيل الله هو أهم ما يثير اهتمام أبي أيوب، وقد أشرنا فيما مر بنا إلى أنه – رضي الله عنه – لم يدع حربا قصد بها نصر الإسلام ونشره إلا وقد شارك فيها، إلا واحدة تردد في الالتحاق بالجيش المنطلق إلى خوضها. وكانت تلك الحرب في آخر سنة من سني حياته، إذ أبى أن يشارك المجاهدين يومذاك لأنه رأى القائد صغير السن على القيادة، وقد لا تكون لديه المقدرة على إدارة الحرب. ولكنه تراجع بعد أن فكر في الأمر، وهنا يقول محمد بن سعد في كتابه: «الطبقات الكبرى». «فإنه استعمل على الجيش (أي كلف بقيادة الجيش) رجل شاب فقعد أبو أيوب تلك السنة، ثم صار يتلهف، ويقول: ما علي من استعمل علي، ويكررها ثلاثا».
وكان ذلك القائد هو يزيد بن معاوية الذي كلفه أبوه معاوية بقيادة جيش لمحاربة الروم لكثرة إيذائهم لدولة الإسلام، وقد أمره بفتح القسطنطينية (إسطنبول اليوم).
ولم يهدأ بال هذا المجاهد إلا عندما انطلق مع هذا الجيش مجاهدا في سبيل الله. وكانت حربا شديدة الوطأة على طرفيها، لأن المدينة المحاصرة كانت قوية التحصين، وكان الروم يرون أن سقوطها سوف يكون سقوطا لهم في هذا الموقع كله، ولذا فقد بذلوا كل جهودهم في الدفاع عنها.
ومن جانب المسلمين، فإنهم قد حاصروا القسطنطينية مرتين، مرة منهما في عهد معاویة بن أبي سفيان، والمرة الثانية في زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك وكان قائدها هو أخوه مسلمة، وكان قد أشرف على فتحها، ولكن الخليفة توفي ـ آنذاك ـ فعاد الجيش بأمر من الخليفة اللاحق وهو عمر بن عبدالعزيز.
وفيا يتعلق بالحصار الأول، فإنه الحصار الذي شهده أبو أيوب بعد أن شد العزم والتحق بالجيش الخارج إلى الجهاد في سبيل الله، وقذف خلفه ما كان قد أعاقه في بداية أمره. وقد مرض في أثناء الحصار، فزاره القائد: يزيد بن معاوية في موضعه الذي مرض فيه وسأله عن حاجته، فما كان منه إلا أن قال:
«نعم حاجتي إذا أنامت فاركب بي، ثم سغ بي (تسلل) في أرض العدو ما رأيت مساغا، فإذا لم تجد مساغا فادفني ثم ارجع».
يقول أحد الرواة:
«توفي أبو أيوب الأنصاري يوم غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في خلافة أبيه معاوية بن أبي سفيان سنة اثنين وخمسين، وصلى عليه يزيد بن معاوية، وقبره بأصل حصن القسطنطينية بأرض الروم. وقد بلغني أن الروم يتعاهدون قبره، ويرمونه، ويستسقون إذا أصابهم القحط وشح المطر».
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن قائد الحصار الثاني وهو مسلمة بن عبدالملك بن مروان بنى – قبل أن ينصرف عائدا – إلى جانب قبر أبي أيوب مسجدا، واشترط على الروم حفظ القبر وكانوا حريصين على حمايته، لما رأوه من بركته كما رأينا آنفا، فهم كما ذكر المؤرخ محمد بن عمر الواقدي في كتابه: المغازي شيئا عن ذلك فقال: «مات أبو أيوب سنة اثنين وخمسين، وصلى عليه يزيد، ودفنه بأصل حصن القسطنطينية، فلقد بلغني أن الروم يتعاهدون قبره».
وهذا الاهتمام برعاية وحماية قبر هذا الصحابي الجليل مستمر حتى يومنا هذا، وهو أمر غير مستغرب، وإذا تذكرنا ما سبق أن أوردناه عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: «حفظك الله حيا وميتا» عرفنا أنه كان محفوظا خلال الحروب التي خاضها، وعندما توفي بقي قبره محفوظا وهو اليوم بين أبناء الشعب التركي المسلم يحوطونه بعنايتهم ويرسلون إلى القبر الكريم حرسا يتولى حراسته بصفة دائمة تنفيذا للدعوة النبوية التي لم يفز بها أحد غير أبي أيوب.
وبعد، فهذه كلمة أوجهها للذين يضعون في خط سياحتهم المرور بمدينة إسطنبول التركية فأقول: لا ينسى أي واحد منكم زيارة قبر الصحابي الجليل خالد بن يزيد الأنصاري واعتبروا الدقائق التي تقفونها عنده جزءا من تحقيق دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فإن وقوفكم هذا محسوب في حراسته واستمرار وضع قبره.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وغفر لأبي أيوب الأنصار، وأدام حراسته.











