شافعي سلامة
حنين إلى الماضي الجميل وقيَمه الدافئة والتركيز على المرأة في مجتمعاتنا الشرقية ودورها الكبير في حمل الأعباء ومواجهة الصعاب حتى تنجو الأسرة التي تمثل هي عمود خيمتها وتصل إلى بر الأمان. انطباع يتسرب في هدوء إلى قارئ رواية «حبات الهريس» لمؤلفتها الروائية فاطمة صالح الراشد، هدوء يماثل هدوء معظم أحداث الرواية الذي يعكس طبيعة الحياة في سبعينيات القرن الماضي.
رسائل عدة بدا أنها حملتها الرواية، التي جاءت في 166 صفحة من القطع الصغير، بدءا من التعليم وظروفه وضرورة التفات الأهل إلى أبنائهم في مراحله المختلفة، حماية لهم مما قد يتربص بهم من سلبيات قد تؤثر على تحصيلهم الدراسي، وكذا على حياتهم ومستقبلهم، سلبيات قد تنتج عن رفاق السوء أو عدم الاهتمام بما يكفي بالعملية التعليمية من جانب الطلبة الشاردين عن جادة الصواب والمنصرفين إلى مغريات سن المراهقة من مفاسد ليس أقلها التدخين.
انصراف الأهل عن متابعة أولادهم يؤدي إلى حدوث جريمة قتل شنيعة، تدمي قلوب أسرة ليس لها أي ذنب، ويتضرر بسببها البطل الرئيس للرواية (عبدالرحمن)، ذلك الفتى المرح الجذاب، وإن لم يكن له في الأمر أي جريرة، وإن كان ضررا مؤقتا حتى تتكشف الحقيقة، لكنه يغير مسار حياته، وأحاله إلى «إنسان محطم مصدوم»، وتودي بحياة شاب في مقتبل العمر (سليمان) بلا سبب إلا أنه وقف بجوار زميل في مواجهة التنمر، كما ينتهي بالجاني (سعود) خلف القضبان.
لكن الأمل يتجدد تجدد الحياة، فها هو عبدالرحمن يتجاوز هذه المحنة، وإن كان على حساب إكماله دراسته التعليمية، فيعمل في أحد المصارف بعد أن أصبح الوجود في المدرسة لا يحتمل بسبب ذكريات حادثة القتل، والتعامل السلبي من الطلبة معه بسبب جرم صديقه، ثم يترقى بعد عدة سنوات بعد اجتيازه عدة دورات، ثم يحصل على السيارة التي كانت تمثل حلما بعيد المنال له، ويؤمن احتياجات والدته وأختيه. لكن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة فيدخل في دوامة من الصعود والانكسار، حتى يصل إلى نهاية المسار.
أم عبدالرحمن شخصية محورية في الرواية، هي أرملة مات زوجها في حادث ليترك لها ولدا وابنتين، تهب حياتها لهم لتربيهم بعون قليل من خال وعم، تحمل راية البطولة في جزء كبير منها حتى تسلمها إلى البطلة الحقيقية (وردة). أم عبدالرحمن صاحبة الهريس التي تعتاد إعداده يوم الخميس المعروف بيوم الهريس، وتوزعه نافلة أو صدقة على أرواح الموتى، وإن كان توزيعه في يوم آخر، فمرد ذلك إلى شيء أفرحها أو نذرا أطلقته، وهكذا تصبح صناعة الهريس وتوزيعه أمرا رمزيا.
جلسة شاي الضحى مع جارتها أم عبدالله (حصة) تنقلنا إلى أيام أول والمشكلات الأسرية التي كثيرا ما تعانيها البيوت الشرقية، وقيمة اجتماعية مهمة، حيث تماسك المجتمع وتقارب الجيران، ومشاركتهم في العسر قبل اليسر والأتراح قبل الأفراح، وهكذا تحاول أم عبدالرحمن مساعدة جارتها في محاولتها استعادة الزوج الشارد، الذي تركها خلفه منكسرة، وولى نحو فتاة في عمر أبنائه، في إشارة إلى ما تعانيه نساء كثيرات في صمت من ظلم رجال لا يقدرونهن حق قدرهن، بعد حياة حفلت بعطائهن دون انتظار مقابل.
وردة التي تطل علينا في مشاهدها الأولى بائعة للزهور تدعم الجميع وتعينهم لكنها تتوه أحيانا كثيرة عن نفسها، هي عماد الأسرة التي تهتم بزوجها، رغم جفائه، وأمه وابنتيها وتحرص على ديمومة الحياة العائلية، رغم شبهة الاستحالة. غلب على شخصيات الرواية النسائية الطيبة، فذلك ما اتسمت به أم عبدالرحمن وأختاه خديجة ومريم وزوجته الأولى وردة وجارتهم أم عبدالله، فيما كانت زوجته الثانية رغد شذوذا عن هذه القاعدة، لكنها تختفي من الأحداث، سريعا كما ظهرت، بعد أن أحدثت ضجيجا فارغا وضررا بزوجها ظاهرا، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
من الرواية
٭ «الانتظار يميت الزمن أو يزيد شيخوخته.. ينشط وساوس تصنع في القلب خدوشا قد تبرأ وقد تدمي أكثر».
٭ «إن أكثر ما يوجع القلب أن تكون عونا للآخرين تائها عن نفسك، ترتب طريقهم وتتوه أنت في خطاك».