يتمتع السفير عصام بن عابد الثقفي، بروح إيجابية، وذاكرة تاريخية، وتعامل راقٍ، ولعلّ العمل في وزارة الخارجية أكسبه دبلوماسية جعلته محل احترام وتقدير من عرفه ومن تعامل معه، وهنا نفتح معه حقيبة الذكريات، ونستعيد شواهد ومشاهد من حياة الإنسان وبرنامجه في شهر رمضان.
«الخارجية» جزء مني
• متى كانت ساعة القدوم للدنيا؟
•• كانت فجر السبت الأول من صفر 1378هـ، السادس عشر من أغسطس 1958، في واحدة من حواري مكة المكرمة القريبة من الحرم المكي الشريف.
• أي موسم ولدت فيه؟
•• معروف أن صيف مكة المكرمة من أصعب أيام العام وتصل درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية وخصوصاً في أغسطس، هذا إذا كان القصد من سؤالك عن الموسم المناخي.
• ماذا يعني الانتماء للعمل في وزارة الخارجية؟
•• العمل بوزارة الخارجية يختلف تماماً عن العمل في أي قطاع آخر من قطاعات الدولة، فمع امتداد سنوات العمل تشعر وكأنك أصبحت جزءاً منه وهو جزء منك، فمن جهة أنت تمثل دولتك بكل ما تعني الكلمة في الدول التي تعمل بها، ومن جهة أخرى أنت تعيش بين العديد من الثقافات وتتعلم لغاتها وهذا هو الانتماء لوزارة الخارجية وللعمل الدبلوماسي.
صُمت في 6 دول
• كم «رمضان» صمته خارج المملكة؟
•• عملت في ستّ دول مختلفة بين قارات العالم (المكسيك، الولايات المتحدة، بروناي، الأرجنتين، النرويج، إندونيسيا)، ومررت بتجربة الصيام في كل تلك الدول، وكانت تجارب بعضها جميل جداً والأخرى متعبة بحكم أنها كانت في دول غير إسلامية، ولكن يبقى الصيام في مملكتنا الغالية مختلفاً تماماً، فهو في رحاب الأماكن المقدسة وبين الأهل والأحباب بخلاف الروحانيات الجميلة التي نعيشها هنا في بلادنا.
• ما الذي تحتفظ به ذاكرتك من تلك «الرمضانات»؟
•• في الأرجنتين مثلاً، كان هناك مركز الملك فهد الثقافي الإسلامي الذي كان ينظم فعاليات عدة في شهر رمضان ابتداء من الإفطار اليومي والصلوات المفروضة والتراويح وقيام الليل، فكنّا نشعر وأعضاء السفارة والعاملون في المركز وكأننا في المملكة، إضافة الى استقطاب أبناء الجالية الإسلامية من السوريين واللبنانيين والمسلمين من الأرجنتينيين لخلق أجواء روحانية تربطهم بدينهم وبالعادات والتقاليد الاسلامية التي يفتقدونها طوال العام.
• أي بيئة ترعرعت فيها طفولتك، وعلى ماذا استيقظ وعيك المبكر من الأحداث والمواقف والناس؟
•• نشأت وترعرعت في البيئة المكية التي كانت تحافظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع المكي واحترام الصغير للكبير في داخل العائلة الواحدة وكذلك الجيران والمدرسين في المدرسة، فكان الجار والمعلم يشاركان الأب في تربية أبنائه، فكانت هناك قوانين غير مكتوبة تنظم حياة المنزل والحارة والمدرسة تربينا عليها فأصبحت الأساس في تعاملنا مع الآخرين، وأحتفظ في الذاكرة بشيء من أحداث حرب ٦٧، عندما كنت طفلاً في الثامنة أو التاسعة من عمري وكيف أن والدي كان يحلل أحداث الحرب مع قرنائه وزواره، ونحن لا نفقه شيئاً سوى أن هناك حرباً قائمة ولا بد من الحذر.
• كيف كان أوّل يوم صيام في حياتك؟
•• لم يكن هناك يوم محدد بدأت فيه الصيام، ولكن بدأنا تدريجياً بحيث نصوم من أول النهار إلى العودة من المدرسة ثم نأكل وجبة خفيفة لنواصل الصيام إلى وقت المغرب وهكذا إلى بداية إجازة عيد الفطر وإغلاق المدارس، فكان المطلوب منا إكمال الصيام إلى نهاية اليوم، كان ذلك في الصفين الأول والثاني الابتدائي، ثم أصبحنا رجالاً (كما كان يُقال لنا) ونستطيع أن نصوم اليوم كاملاً طوال الشهر وفي كل الظروف الحياتية والمناخية.
• ما موقف والدتك ووالدك من صومك المبكر، وهل أذنا لك أو أحدهما بقطع الصيام بحكم الإرهاق؟
•• ربما تحدثت في إجابتي السابقة عن ذلك، وأضيف، أن الوالدة، رحمها الله، هي من كانت تتابع هذا الأمر بيني وبين إخوتي، وكان الوالد، رحمه الله، يراقب من بعيد ويشجعنا بهدايا رمزية بسيطة وأحياناً بمبالغ إضافية خارج مخصصاتنا اليومية من المصروف، ما أجملها من أيام تنتعش لها الذاكرة عندما تمر عليها، فما أجمل ذلك الزمن بكل ما فيه من صعوبات وحرمان.
أنا و«السوق الصغير»
• على ماذا كانت تتسحر الأسرة في ذلك الوقت؟
•• أذكر أن الطبق الرئيسي للسحور كان الرز الكشري مع اللبن، وهو المفضل بالنسبة لي حتى لو كانت هناك أطباق أخرى، طبعاً كنا ننام بعد صلاة العشاء بساعة أو ساعتين لنصحو لتناول وجبة السحور ثم نكمل نومنا لنصحو قبل الذهاب للمدرسة، إلا أن هذه العادة لا تطبق في الأيام السابقة لعيد الفطر، حيث المدارس مغلقة والكل يستعد للعيد بشراء الملابس ومساعدة الأهل في ترتيب وتجهيز المنزل لاستقبال المعيدين وقضاء أيام العيد.
• ما النشاط المنزلي الذي كنت تُكلّف به؟
•• كان الوالد، رحمه الله، يعمل في صياغة الفضة وكان عنده دكان في منطقة تُسمى (السوق الصغير) في مكة المكرمة، يعرض فيه ما يقوم بصياغته وكان أبي يصحبني أنا وأخي الأكبر مني إلى دكانه، وكان كثيراً ما يدربنا على استخدام الأدوات التي كان يستخدمها في صياغة الفضة إضافة إلى المهمات البسيطة الأخرى المصاحبة لذلك، كنا نعتقد حينها أنه لولانا لما استطاع أن يكمل عمله ولما استطاع زبائنه أن يشتروا المصوغات الفضية لنسائهم ليتزينّ بها في أعياد الفطر.
خطّي جميل
• أي فرق أو ميزة كنت تشعر أنك تتميز بها عن أقرانك؟
•• في المدرسة كنت أتميز بجمال خطي، فكان المدرسون يكلفونني بتصميم وكتابة المجلات الحائطية وكذلك تصميم وخط عناوين المواضيع للمجلة السنوية للمدرسة، كم كنت أفخر عندما أضع اسمي إلى جانب كل عمل أقوم به وكم كانت سعادتي عندما يهديني مدير المدرسة نسختين من المجلة بعد طباعتها تقديراً لجهودي، وكنت أحتفظ الى عهد قريب ببعضها ولا أدري أين هي الآن.
• من تتذكر من زملاء الطفولة؟
•• من حسنات وسائل التواصل الاجتماعي، أنْ جمعتنا مجدداً بالكثير من أصدقاء الطفولة بعد انقطاع دام لعقود طويلة،، لا شك أن مراحل الدراسة ما قبل الجامعية كانت تجمع بين الزملاء في أغلب الأحيان لأكثر من عشر سنوات، ينطلق بعدها الجميع للدراسة الجامعية كلٌ في مكان ثم العمل كلٌ أيضاً حسب تخصصه ودراسته فتفصل بينهم السنوات ومشاغل العمل، إلا أن التقارب مجدداً أصبح سمة كل زملاء الدراسة والعمل، تجمعني الآن مجموعة صغيرة من زملاء مدرسة الفلاح، كنا مقربين جداً وقت الدراسة ونلتقي الآن بمعدل مرة كل شهر أو شهرين ومجموعة أخرى كبيرة لنا ولمن سبقونا ولحقونا بسنوات وأيضاً زملاء العمل ممن جمعتنا بهم أروقة وزارة الخارجية أو سفارات المملكة في الخارج، لقاءات نسترجع فيها الذكريات وأجمل أيام الدراسة والعمل.
• لماذا يسكننا حنين لأيامنا الأولى في الحياة؟
•• صحيح.. فدائماً ما يربطنا بماضينا الحنين والشوق الكبير لأيام الطفولة والبدايات، دائما ما أتذكر حواري مكة التي نشأت وكبرت فيها ودكان أبي وكذلك مدرستي التي قضيت فيها 12 عاماً، وأتمنى زيارتها إلا أن حسرة تتملكني في كل مرة لأن تلك المناطق أصبحت أثراً بعد عين حيث تمت إزالتها كلها لتوسعة الحرم الشريف.
• أين شعرت بحالة الانفصال عن مدينتك وتغير عليك النمط المعيشي؟
•• عندما التحقت بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، اضطررت إلى ترك مكة المكرمة والانتقال إلى جانب الجامعة، وبعد انتهاء دراستي الجامعية والتحاقي بوزارة الخارجية التي انتقلت لاحقاً من جدة إلى الرياض وانتقلت معها ومنها إلى دول العالم حيث السفارات التي عملت بها، بذلك وجدت نفسي ابتعدت جسدياً شيئاً فشيئاً من مدينتي مكة المكرمة التي أعشقها إلا أن روحي ما زالت متعلقة بها وأنتظر اليوم الذي أعود فيه إليها لتكون آخر أيامي بين أحضانها.
مدير لن أنساه
• متى بدأت الدراسة، وأي مدرسة لا تنساها، ومن المعلّم الذي تحفظ له معروفاً لا تنساه؟
•• بدأت الدراسة في العام ١٣٨٤هـ ١٩٦٤، وكانت دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمدارس الفلاح في مكة المكرمة.. كثير من المعلمين أحتفظ لهم بذكريات ومواقف جميلة، ولكن يبقى السيد محمد رضوان مدير المدرسة، رحمه الله، الذي رافقنا ورافقناه طوال هذه السنين نحمل له بين دواخلنا أنا وجيلي من الطلبة ومن قبلنا ومن بعدنا كل الحب والتقدير والاحترام، كان صارماً مهيباً في كلامه وإدارته، لكنه أيضاً كان يحمل في صدره قلب أب حانٍ يعتبر كل طالب في مدرسته ابناً له.. نجتمع كثيراً أبناء مدرسة الفلاح في مناسبات مختلفة ويبقى ذلك الرجل حاضراً بيننا ولا يخلو لقاء دون استرجاع ذكرياتنا معه رغم مرور أكثر من 50 عاماً على تركنا مقاعد الدراسة.
• ما المواقف العالقة بالذهن من تلك المرحلة؟
•• لعل أهم موقف مرّ بي وما زلت أتذكره إلى الآن، عندما نجحت من الصف الأول الابتدائي للثاني وعقب نهاية العطلة الصيفية والعودة إلى المدرسة وفي اليوم الأول وحين توزيع الطلبة على فصولهم، وجدت أن اسمي لم يكن بينهم واصطحبني المشرف المسؤول مرة أخرى إلى الصف الأول وهو يخبرني بأني (ساقط) وسأعيد العام، انتابني حزن شديد وألم نفسي لا يعادله ألم، فكيف أبدأ من جديد مع أطفال في يومهم الأول وأنا قد تجاوزت هذا الأمر قبل عام كامل، عرفت فيما بعد أن والدي، رحمه الله، هو من أوعز لإدارة المدرسة بتلك الرغبة لأنه لم يكن راضياً عن مستوى أدائي في الصف الأول، وأن إعادتي للصف الأول ستقوّي من قدراتي على التحصيل.. والسؤال الذي حيّرني: كيف وافقت إدارة المدرسة على ذلك وهي صاحبة القرار؟
«شوربة الحَب»
• ما برنامجك الرمضاني من الفجر إلى السحور؟
•• حالياً أحاول أن يكون يومي الرمضاني بعيداً عن أي ارتباطات لأتفرغ قدر ما استطعت من التقرب إلى الله بالعبادات، فأصحو على الساعة الـ11 تقريباً لأقرأ ما تيسر لي من القرآن الكريم من صلاة الضحى إلى موعد صلاة الظهر في مسجد الحي، وأعود إلى قراءة القران إلى صلاة العصر، وفي العصر أخرج لشراء بعض الاحتياجات الرمضانية التي غالباً ما تكون للأكل أو الشرب والتي في معظمها لا حاجة لها وإنما هي عبء إضافي على مائدة الإفطار لا تُمد إليه الأيدي، وعقب الإفطار يكون الاستعداد لصلاة العشاء والتراويح، التي يتلوها في بعض الأيام لقاء مع أصدقاء أو زيارة أهل ثم عودة للمنزل وهكذا معظم أيام رمضان التي يتخللها أداء العمرة مرة أو مرتين إذا تيسر ذلك.
• أي الطبخات أو الأكلات أو الأطباق تحرص على أن تكون على مائدتك الرمضانية خصوصاً المحلية؟
•• معروف أن لرمضان أطباقه المفضلة ولكني عاشق لشوربة الحب، التي تجيد صنعها زوجتي بطريقة لا أقبل لها بديلاً، وطبعاً نوع أو نوعان من السمبوسة، أفضّل أيضاً الأكلات الشعبية الأخرى كالفول والمعصوب والكبدة ولحمة الرأس، ولكنها بطبيعة الحال موزعة على أيام رمضان، في رأيي أن رمضان فرصة للإقلال من الأكل وإنزال شيء من الوزن.
أهلاً بالمعارف الجديدة
• هل تتابع برامج إذاعية أو تلفزيونية، وما هي؟
•• أتابع عادة البرامج السياسية والإخبارية وبعض البرامج المنوعة إنْ تيسرت، مع زمن وسائل التواصل أصبح كل شيء مختلفاً وأمام هذا الكم الهائل من القنوات والمحطات الإذاعية أجزم ألا أحد يستطيع أن يلتزم ببرامج أو قنوات معينة، فالمنافسة شرسة والخيار مفتوح على مصراعيه.
• لماذا يتناقص عدد الأصدقاء كلما تقدم بنا العمر؟
•• ربما لرغبة منا في الاكتفاء بمن حولنا من صداقات من عرفناهم وعرفونا لسنوات طويلة، فلا وقت مع تقدم العمر لإقامة علاقات وصداقات جديدة قد تكتشف بعد مدة بأنها لا تستحق اهتمامك ووقتك، لذلك في رأيي يقل عدد الأصدقاء مع الاكتفاء بمجموعة محددة يلتئم حولها الواحد منا كلما احتاج لهم، وهذا بطبيعة الحال لا يمنع من التعرف على وجوه ومعارف جديدة ولا أقول صداقات.
• ما حكمتك الأثيرة، وبيت الشعر، واللون الذي تعشق؟
•• حكمتي وبعد هذه الرحلة الطويلة بين العمل ودروب الحياة ألا شيء يستحق، أعطِ كل شيء حقه دون مبالغة ولا إفراط، فالحياة قصيرة مهما طالت والدار الآخرة هي ما تستحق أن نعمل من أجلها.
• هل لك ميول رياضية، وما فريقك المفضل؟
•• للأسف لا ميول رياضية عندي، أحاول المشي أحياناً وأندم على تفريطي، وفريقي المفضل هو المنتخب الذي أتحمس لأدائه إذا أبلى حسناً.
• أي قصيدة ترى أنها توزن بماء الذهب؟
•• من أجمل القصائد التي أحببتها وتستحق في نظري أن تكتب بماء الذهب قصيدة الشاعر كريم العراقي التي مطلعها:
لا تَشْكُ للناس جُرْحاً أَنْتَ صَاحِبُهُ *** لا يُؤْلِمُ الجَرْحُ إلا مَن بِهِ ألَمُ.
• أي زمن أو عصر كنت تتمنى لو أنك عشت فيه؟
•• زمن حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
أخبار ذات صلة