في عام 1982 شن نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عملية عسكرية استهدفت مدينة حماة السورية، واستمرت 27 يوما، وأدت إلى مقتل نحو 40 ألف شخص وأكثر من 17 ألف مفقود، فيما أصبح يعرف باسم “مجزرة حماة”.
واليوم وبعد أكثر من 40 عاما على المجزرة، كشفت دراسة جديدة -فحصت جينات أجيال من العائلات السورية عاشت مجزرة حماة قبل الفرار إلى الأردن، وعائلات أخرى عاشت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد- أن المجزرة تركت آثارا مخفية عميقة في جينات الأسر السورية.
وتبين أن أحفاد النساء اللاتي كن حوامل أثناء حصار حماة -الأحفاد الذين لم يختبروا مثل هذا العنف قط- يحملون علاماته في جينوماتهم. وهذه البصمة الجينية، التي تنتقل عبر أمهاتهم، تقدم أول دليل على هذه الظاهرة لدى البشر.
للحديث حول هذه الدراسة ونتائجها، استضفنا في عيادة الجزيرة الأستاذة الدكتورة رنا الدجاني، الباحثة في علم الجينات في الجامعة الهاشمية في الأردن، والقائد المشارك في الدراسة.
-
كيف أتت فكرة هذه الدراسة؟
الحقيقة أن والدتي من مدينة حماة وحلب من سوريا ووالدي من القدس من فلسطين، وأنا أعيش الآن في الأردن والأحداث التي حصلت في مجزرة حماة أنا عايشتها في ذلك الوقت في 1982، وكان لوالدتي أقرباء في مدينة حماة وكنا نتابعهم على الهاتف كل يوم لنطمئن عليهم، وكثير منهم هرب من سوريا وجاء وسكن في بيتنا، فكنت قريبة جدا من الأحداث.
وهذا جعلني أفكر في أثر هذا العنف الذي تعرض له الأفراد في مدينة حماة، وكيف يؤثر على الجينات وهل ممكن لهذه الآثار أن تورث للأجيال القادمة ومن هنا بدأت فكرة البحث، وكان سؤالي هل العنف الذي تعرضت له النساء خاصة الحوامل في 1982 في مدينة حماة ترك آثارا في أجسامهن وهل تركت آثارا تورث للأجيال القادمة.
وطبعا البحث الحقيقي يحتاج فريقا ولا يستطيع شخص واحد أن يقوم به، فبدأت أبحث عن علماء من مجالات مختلفة لكي نتعاون مع بعضنا البعض لتحقيق هذا الأمر. وأول شيء دعوت الدكتورة كاثرين بانتر بريك من جامعة ييل في الولايات المتحدة، لأنها متخصصة في الأنثروبولوجيا وفي قياس العنف، وذلك حتى نعرف مدى العنف الذي تعرضت له السيدات. ومن ثم دعوت الدكتورة كوني موليجان من جامعة فلوريدا، والتي تتخصص في علم الجينات لكي تساعدنا في تحليل العينات التي نأخذها لمعرفة التغيرات التي تحصل على الجينات، وأهم شيء أننا دعونا ديمة حمضمض وهي باحثة سورية من المجتمع نفسه، وقد تعرض أهلها في مدينة حماة للمجزرة.
عملنا معا لنجد العائلات التي نستطيع أن نأخذ منهم العينات عبر 3 أجيال ونتمكن من التحقق من الفرضية، وهكذا اكتمل الفريق الذي بدأ يعمل منذ 7 أو 8 سنوات.
-
ما أهمية الدراسة؟
أهمية الدراسة تكمن في عدة محاور، أولها تصميم الدراسة فهي مميزة لأننا استطعنا من خلال معرفتنا بتاريخ المجزرة وما حصل للأهالي في سوريا أن نحدد 3 مجموعات مختلفة نقارنهم ببعضهم البعض، ليكون جوابنا عن السؤال دقيقا جدا.
وأول مجموعة كانت العائلات التي تعرضت للمجزرة في حماة وهربوا إلى خارج سوريا. والمجموعة الثانية كانت من الذين كانوا جزءا من الثورة وتعرضوا للعنف من حكومة الأسد وأيضا هربوا من سوريا. والمجموعة الثالثة من الذين تركوا سوريا في أول القرن الماضي ولم يتعرضوا لأي عنف وقطنوا في الأردن.
فهذه كانت الثلاث مجموعات، وأخذنا عينات من الجدات اللواتي كنّ حوامل في زمن المجزرة عام 1982، ومن الأبناء ومن الأحفاد وهذه شكلت منظومة نستطيع من خلالها الإجابة عن السؤال.
والأهمية الثانية لهذه الدراسة، تكمن في أننا نعلم من خلال علم الجينات أنه إذا تعرض الإنسان إلى العنف يمكن أن تتأثر جيناته، الجين نفسه لا يتغير وإنما يتأثر ضبطه: هل يستخدم أم لا يستخدم، وهذا ما يسمى علم ما فوق الجينات (Epigenetics).
الآن نجيب عن السؤال: هل الأم الحامل تتأثر في العنف وتتغير جيناتها؟ وهل تورثه إلى أحفادها؟ إجابة هذا السؤال هو نعم في كائنات حية أخرى. ولكن لم نستطع أن نجيب عن هذا السؤال في البشر. لذلك تبرز أهمية هذه الدراسة هنا حيث إننا استطعنا أن نجيب عن هذا السؤال في البشر.
وجدنا أن الأمهات اللاتي كن حوامل وتعرضن للعنف تأثر أو تغير لديهن 21 جينا، وتغير فوق الجيني سببه التعرض لهذا العنف، أما الأحفاد الذين لم يتعرضوا للعنف وجدنا عندهم 14 موقعا في الجينوم قد تغير نتيجة العنف الذي تعرضت له جداتهم. وهذه أول مرة يتم إثبات ذلك في الجنس البشري.
والأمر المهم الثالث هو أننا وجدنا أن الأجنة التي كانت في داخل أرحام الأمهات اللاتي تعرضن للعنف تسارعت عندهم الشيخوخة البيولوجية، وهذا له علاقة بمستقبل هؤلاء الأطفال وتعرضهم لأمراض مختلفة مثل السكري أو أمراض القلب وغيرها وكانت هذه أيضا أول دراسة تثبت هذا التسارع في الشيخوخة لدى الأجنة، وهذا دليل على تأثر الجنين في البيئة التي تعيش فيها الأم الحامل.
-
ما التحديات التي واجهتموها؟
لا يوجد بحث بدون تحديات، أول تحد أن الخصائص التي رسمناها للعائلات التي نود أن تشارك في الدراسة كانت دقيقة جدا، فكان من الصعب أن نجد عائلة يكون عندها هذه الخصائص: أن تكون الجدة حاملا في 1982، وأن تكون ابنتها وأحفادها لم يعيشوا أي عنف من الثورة التي حصلت في سوريا بالتالي يجب أن يكونوا قد تركوا بلادهم.
ثانيا: كسب الثقة من هذه العائلات، لأنهم يتسألون من أنتم؟ وكيف نثق بكم؟ لماذا تقومون بهذا العمل؟ لماذا تأخذون منا عينات؟ والعينة هي عينة الحمض النووي نأخذها من خلايا الخد لنحللها. فبناء الثقة والتواصل معهم كان مهما جدا.
وتحد آخر تمثل في إيجاد مختبر يمكن أن يقوم بتحليل هذه العينات. للأسف في منطقتنا العربية ليس لدينا المختبرات والتمويل الكافي لعمل هذه التحليلات الدقيقة، نحن لم نبحث عن جين واحد، بل نحن اطلعنا على كل الجينوم وكل التغيرات التي حدثت على هذا الجينوم في 850 ألف موقع.
وكنا بحاجة لمختبر يستطيع أن يفعل ذلك وعنده التمويل الكافي وهنا كانت الشراكة المهمة جدا لحل هذا التحدي، فكانت الشراكة مع جامعة فلوريدا مع الدكتورة كوني التي كان لديها المختبر واستطاعت هي والدكتورة كاثرين أن يأتوا بالتمويل لدفع ثمن تحليل هذه العينات بشكل صحيح والحصول على النتائج.
العائلات السورية التي شاركت في البحث هم الأبطال الحقيقيون لهذه الدراسة
وبينت الدكتورة رنا أن التواصل الاجتماعي، الذي هو جزء من عاداتنا في مجتمعنا العربي جعل هذه الدراسة ممكنة. وتحدثت عن امتنانها للعائلات التي شاركت في الدراسة. وأعربت عن أملها في أن تصل نتائج الدراسة للمشاركين من خلال منصة الجزيرة. وأضافت أنهم ومن جانبهم أعدوا ملخصا صغيرا لمشاركة جميع العائلات النتائج، وسيتم زيارتهم لإيصاله لهم، فهم أبطال هذه القصة.
-
ماذا تعني هذه الدراسة للأجيال القادمة؟
تكمن أهمية الدراسة للأجيال القادمة في أننا اكتشفنا 14 موقعا على الجينوم حصل فيها تغيرات، ونحن لا نعلم ما هي وظيفتها. وبينت أن الأحفاد الذين لم يتعرضوا للعنف ورثوا جينات ربما تكون تساعدهم على التعامل مع البيئات الجديدة التي تواجههم، وتمنحهم الخيارات ومرونة للتعامل مع الأشياء غير المعلومة. وهذا مهم لأنه يؤثر على السياسات المستقبلية التي يصممها المسؤولون لكيفية التعامل مع الأجيال القادمة لشعوب تعرضت للعنف.
-
في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، والتي أسفرت عن أكثر من 50 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى والمفقودين، هل نتوقع حدوث هذه التغيرات الجينية لدى سكان غزة وأبنائهم وأحفادهم مستقبلا؟
هناك مسؤولية عظيمة على جميع الأفراد في العالم الذين يشهدون ماذا يحدث الآن في فلسطين، كعالمة يجب أن أكون دقيقة جدا، نحن اكتشفنا هذه التغيرات لدى من تعرضوا للعنف في سوريا، والتوقعات تشير إلى أننا قد نجد هذه التغيرات لدى أحفاد الفلسطينيين الذين تعرضوا للعنف، ولكن ما لم نجر التجربة لا نستطيع أن نجزم بذلك.
وممكن أن يكون لديهم مواقع جديدة (في الجينات) والسبب أن العنف الذي تعرض له الناس في فلسطين هو ليس حدثا واحدا إنما هو سلسلة من الأحداث منذ عام 1948. فماذا يعني التعرض للعنف المستمر؟ هذا السؤال الآن مطروح وما أثره على الجينوم للأفراد الذين عاشوه؟ والأجنة الموجودة في أرحام أمهاتهم اليوم والأحفاد الذين سيأتون في المستقبل؟
والحقيقة أن التخوف من أن الآثار ستكون أكبر وأعظم لأحفاد الفلسطينيين الذين يتعرضون الآن للعنف والإبادة في غزة وفي الضفة الغربية الآن.
دراستنا مهمة جدا والسبب أننا أعطينا لأول مرة الإثبات أننا نستطيع أن نقيس هذا الأثر على الجينات وإذا استطعنا قياسه فنحن نوثقه، وإذا وثقناه سنستطيع استخدامه في المستقبل لمحاسبة المسؤولين عن هذا العنف.
وهنا أود أن أنوه إلى أن شعبنا في سوريا وفي فلسطين -الذين تعرضوا للعنف- لديهم إيمان بقضيتهم وإيمان بحقهم لأنهم أصحاب حق وأصحاب أرض وهذا ما نسميه الصمود، هذا الصمود النابع من هذا الحق وهو ما لم يدرسه أحد، ماذا يعني هذا الصمود بيولوجيا؟ هل نستطيع أن نقيسه؟ وهل هو جزء من التغيرات التي تحصل على المادة الوراثية؟ هذه أسئلة أخرى تثير فضولي، وإذا اكتشفنا الإجابة كيف نوظفها في خدمة الإنسانية.