منذ أواخر القرن الـ13 الميلادي توسعت الدولة العثمانية الناشئة التي كانت تقع على حدود التماس مع الإمبراطورية البيزنطية، وكان العثمانيون يدركون الأهمية القصوى للجانب الأوروبي من هذه الدولة، لأسباب كثيرة منها تطلعهم الدائم للاستيلاء على إسطنبول، ونشر رقعة الإسلام في أراض جديدة في البلقان.
واجه العثمانيون مقاومة شرسة من العديد من الحواضر الأوروبية في شرق القارة، مثل كوسوفو وسمندرة وأثينا وبلغراد، التي اتخذت مواقف عدائية للحيلولة دون تمددهم.
وقد جاءت هزيمة السلطان بايزيد الأول أمام تيمورلنك في معركة أنقرة عام 1402 ضربة كبيرة في جهود العثمانيين في هذا المضمار، ولم تقتصر آثارها السياسية على الأناضول فحسب، بل امتدت إلى البلقان أيضًا، فقد سعى ملك المجر حينئذ سيغيسموند إلى استغلال هذه الهزيمة لتحقيق هدفه في إنشاء دولة عازلة بين بلاده والدولة العثمانية.
اختار سيغيسموند الأمير الصربي ستيفان لازاريفيتش، المعروف باسم لازوغلو، ليكون المرشح المثالي لقيادة هذه الدولة العازلة.
ورغم أن لازاريفيتش كان تابعًا للدولة العثمانية بعد معركة كوسوفو عام 1389 التي انتصر فيها العثمانيون واستشهد خلالها السلطان مراد الأول، فإن هزيمة أنقرة شكلت فرصة له لإنهاء ولائه للعثمانيين.
وفي عام 1403، أعلن لازاريفيتش ولاءه لملك المجر واعترف بسيادته، ليحصل بذلك على أراضٍ واسعة داخل المجر، إلى جانب إدارة مدينة بلغراد، التي جعلها عاصمة لإمارة صربيا الناشئة.
محاولات مبكرة لفتح بلغراد
وقد أدى وقوع بلغراد في أيدي المجريين في نوفمبر/تشرين الثاني 1427 إلى دفع العثمانيين نحو تبني سياسة عسكرية أكثر نشاطا في المنطقة، حيث يُشير المؤرخ التركي خليل إينالجك إلى أن العثمانيين رأوا استيلاء سيغيسموند على بلغراد تطورا خطيرا يهدد أمنهم، ولذلك كثّفوا غاراتهم في البلقان بعد عام 1427 لمواجهة هذا التهديد.
ومن جهته، كان سيغيسموند يسعى إلى إبقاء العثمانيين جنوب حوض الدانوب قدر الإمكان، حيث اتبع سياسة دفاعية تمثّلت في إنشاء دول تابعة في كل من الأفلاق وصربيا والبوسنة لتحقيق هذا الهدف.
وقد تزامن ذلك مع دخول الدولة العثمانية إلى ما سُمي بعهد الفترة، وهي فترة زمنية دخل العثمانيون فيها في صراع على السلطة في الربع الأول من القرن الـ15، مما أدى إلى تراجع نفوذها في المنطقة.
ولا شك أن تأمين الحدود الشمالية الغربية، بل وحتى إخراج المجر تمامًا من المعادلة العسكرية والسياسية في البلقان، كان أمرا بالغ الأهمية لاستمرار الوجود العثماني في المنطقة، ويبدو أن العثمانيين كانوا على دراية بهذه الحقيقة، وكذلك بأهمية بلغراد في هذا السياق.
وقد أشار المؤرخ عاشق باشازاده إلى أهمية بلغراد أثناء حديثه عن حملة السلطان مراد الثاني عام 1440 قائلًا: “وصل إلى بلاد المجر، وعلم السلطان مراد الغازي أن بلغراد هي بوابة ولاية المجر، فقرر أن يفتح هذه البوابة”.
كما أكد المؤرخ خواجة سعد الدين أفندي على أهمية المدينة بقوله: “إن قلعة بلغراد هي باب ذلك الإقليم، ومفتاح باب الفتح”، مشيرًا بذلك إلى الدور الحيوي الذي لعبته بلغراد في السياسة العثمانية.
ولكن حملة السلطان مراد الثاني على المجر وخاصة بلغراد -عاصمة الصرب اليوم والتي كانت تتبع مملكة المجر وقتئذ- باءت بالفشل بعد حصار استمر 6 أشهر، بسبب دفاع القائد العسكري المجري هونياد دفاعا مستميتا كلف الدولة العثمانية العديد من الخسائر في بعض المعارك، وهو الأمر الذي اضطر معه مراد الثاني إلى إبرام معاهدة هدنة وصلح استمرت بين الجانبين 10 سنوات.

السلطان الفاتح وبلغراد
وكانت المحاولة الثانية والأكثر جرأة في عهد ابنه السلطان محمد الفاتح، حيث وصل إلى مدينة بلغراد -الواقعة على نهر الدانوب- وحاصرها من البر والنهر، وفي تلك الأثناء كان القائد المجري هونياد قد دخل المدينة قبل اكتمال الحصار العثماني، فتصدى للدفاع عنها ببسالة، واستمر في المقاومة حتى فقدَ السلطان الفاتح الأمل في فتحها، فرفع الحصار عنها عام 1455.
وكما يقول المؤرخ محمد فريد بك في كتابه “تاريخ الدولة العلية” فرغم عدم تمكن العثمانيين من السيطرة على عاصمة الصرب في ذلك الوقت، فإنهم حققوا مكسبا كبيرا بإصابة هونياد بجروح خطيرة أدت إلى وفاته بعد نحو 20 يومًا من فك الحصار، مما أراح المسلمين من خصم عنيد.
وعندما بلغ السلطان نبأ وفاته، أرسل الصدر الأعظم محمود باشا لإكمال فتح بلاد الصرب، فتمكن من تحقيق ذلك بين عامي 1458 و1460؛ وبذلك، فقدت الصرب استقلالها بالكامل بعد أن أنهكت الدولة العثمانية في عدة محاولات سابقة.
ولكن بقيت بلغراد شوكة في خاصرة الدولة العثمانية في البلقان؛ نظرا لقوتها ومنعتها وأهميتها الإستراتيجية كمركز مقاوم قوي لوجود العثمانيين في المنطقة، بل ومنطلق لعمليات هجومية قادمة قد تؤدي لاستعادة كثير من الأراضي التي فتحها العثمانيون في بلاد الصرب خاصة والبلقان عامة.

سليمان القانوني يحقق أحلام أجداده
ولكن سيتأجل فتح المدينة إلى 6 عقود تالية في عهد حفيد الفاتح السلطان سليمان القانوني الذي اتخذ قرارا بالهجوم على بلغراد في السنة الأولى من توليه السلطنة على غير تخطيط منه ولا تدبير.
فعند وفاة والده السلطان سليم الأول، تولى سليمان السلطنة في إسطنبول في 30 سبتمبر/أيلول 1520، وكان حينها قد تجاوز الـ25 عاما بـ4 أشهر، وكالعادة البروتوكولية المتبعة في ذلك العصر أرسل القصر العثماني مبعوثين خاصين إلى مختلف الجهات لإبلاغ دول العالم بنبأ اعتلاء السلطان سليمان العرش.
وكان من بين هؤلاء المبعوثين السفير بهرام تشاوش، أحد أفراد ديوان التشريفات، الذي أُرسل إلى المجر بصفته مبعوثًا خاصًا ذا صلاحيات كاملة، لكن الملك المجري لويس الثاني وبتهور كبير أصدر قرارا بقتل السفير العثماني.
فقُتل بهرام تشاوش ثم قُطعت أذناه وأُرسلت إلى السلطان سليمان كرسالة تهديد، وكان لهذا الحدث وقعٌ بالغ، إذ أجج الغضب العثماني، كما منح إيطاليا وإيران أعداء العثمانيين وقتئذ فرصة لالتقاط أنفاسهما، إذ بات واضحًا أن الحملة العسكرية العثمانية الأولى في عهد سليمان لن تكون ضدهما، بل ستتجه نحو المجر.
وهذا ما حدث بالفعل، ففي 17 مايو/أيار 1521، غادر السلطان العثماني إسطنبول في حملته الأولى التي ستدشّن عهدا امتد 46 عاما، وكان هدفه قلعة بلغراد، الحصن الذي لم يُهزم قط والذي يقطنه المجريون مع أقلية صربية، ويبعد 30 كيلومترًا فقط عن حدود الأراضي العثمانية في البلقان، بعد أن فشلت العديد من المحاولات السابقة في الاستيلاء عليه.
سرعان ما تحرك الجيش العثماني أولا إلى مدينة أدرنة، حيث مكث 5 أيام، ثم تابع المسير وصولًا إلى صوفيا، عاصمة بلغاريا اليوم وكانت ضمن الأراضي العثمانية وقتها.

وهناك انضم إلى الجيش دامات فرهاد باشا مصحوبًا بـ3 آلاف جمل محمّلة بالبارود والرصاص، بينما كان قائد الأسطول العثماني دانشمَند رئيس يتقدم نحو بلغراد عبر نهر الدانوب بأسطول صغير مكوّن من 50 سفينة، متجهًا نحو نقطة التقاء نهري السافا والدانوب حيث تقع القلعة المستهدفة.
كان حاكم مدينة سمندرة الحدودية القريبة من بلغراد غازي حسرو بك قد تلقى أوامر بالسيطرة على الطرق التي قد تُستخدم لإرسال تعزيزات إلى بلغراد، وفي الوقت ذاته، شنّ قادة الآقنجي أو قوات الغُزاة وهم ميهال أوغلو محمد بك وبالي بك غارات على مناطق كرواتيا وترانسيلفانيا لإشغال المجريين ومنعهم من إرسال الدعم، أما الأمير تورهان أوغلو عمر بك، فقد كان يقود الطليعة أمام الجيش العثماني.
وفي تلك الأثناء كلّف السلطان سليمان القانوني الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بيري محمد باشا بالسيطرة على مدينة زملين التي كانت بمنزلة الضاحية القريبة من بلغراد.

بينما توجه السلطانُ بنفسه إلى قلعة بوغوردلين، حيث كان عليه تصفية حساب قديم، ذلك أن القلعة التي بناها جده الأكبر السلطان الفاتح أثناء محاولته فتح بلغراد، كان قد استولى عليها المجريون فيما بعد، ولا تزال تحت أيديهم، وكان من الضروري استعادتها أولًا.
وفي 7 يوليو/تموز 1521 شنّ السلطان الشاب هجوما كاسحًا على القلعة التي كان يدافع عنها القائد المجري سيمون لوغودين، وبحلول نهاية اليوم سقطت القلعة في أيدي العثمانيين، حيث أمر السلطان سليمان فورًا بإصلاحها وإعادة تحصينها، قائلًا: “هذه القلعة قد فُتحت سابقًا، وينبغي أن تُعمّر من جديد” وبعد ذلك، واصل السلطان مسيرته نحو هدفه الرئيسي قلعة ومدينة بلغراد.
ففي 9 من الشهر نفسه، بدأ العثمانيون في بناء جسر على نهر سافا تحت إشراف السلطان سليمان القانوني بصورة شخصية، بينما وصل في الـ12 خبر فتح قلعة زملين على يد غازي خسرو بك، وبحلول يوم الـ18، اكتمل بناء الجسر وبدأ الجنود العثمانيون بالعبور عليه، وبالإضافة إلى ذلك، تم البدء في إنشاء جسر ثانٍ تحت إشراف قرة جة باشا.
وفي 26 يوليو/تموز عبر السلطان سليمان القانوني الجسر ودخل مع جيشه إلى بلغراد، حيث استسلمت المدينة، لكن المجريين تحصنوا داخل قلعة بلغراد، إحدى أقوى القلاع في العالم حينئذ، والتي أفشلت 3 محاولات سابقة للعثمانيين لفتحها، واستمروا في مقاومتهم الشديدة، حيث واجههم القانوني بمثل قوتهم، مستخدمًا هجمات متواصلة من النهر والبر دون توقف.
حتى تمكن السلطان سليمان من إسقاط القلعة، التي كانت تُعتبر مستحيلة الفتح من قِبل العالم المسيحي، وذلك في غضون 3 أسابيع فقط، بينما كان أجداده يحاصرونها بالأشهر بل والسنة الكاملة سابقا ولم ينجحوا في فتحها!
فتح بلغراد وتحصينها
يذكر المؤرخ العثماني إبراهيم بجوي أفندي في تاريخه -وكان معاصرا لفتح بلغراد- أن القوات العثمانية انقسمت في حصار قلعة بلغراد إلى عدة مجموعات، الأولى بقيادة مصطفى باشا إلى الخندق الذي كان فيه الصدر الأعظم، حيث قرر من جانبه تلغيم الجانب الأعلى من القلعة.
كذلك أقام أحمد باشا أمير الأمراء خندقا آخر بالقرب من القلعة وبدؤوا بضرب القلعة بالمدافع، كما يصف “بكمال الجد والإقدام، وبفضل الله تعالى فُتحت القلعة بطلب أهلها الأمان، وسُمح للذين يريدون الذهاب من أهلها بالانصراف”.
ويستمر إبراهيم بجوي أفندي في سرد الرواية الأوروبية التي سمعها ودونها في تاريخه أيضا بأن الخيانة الداخلية من بعض العساكر الفرنج، وقلة عدد المدافعين عنها، وتزايد المجاعة ونقص المؤن كل ذلك أجبر من فيها على الاستسلام والتسليم للعثمانيين.
وقد فرح القانوني بفتح القلعة والمدينة فرحا كبيرا، وكما يذكر الكاتب التركي خالد كاناك قائلا: كيف لا يشكر سليمان القانوني الله على ذلك الفتح؟ فقد تحقق له فتح قلعة بلغراد التي استعصت من قبلُ على السلطان مراد الثاني، ثم ابنه الفاتح، ثم حفيده بايزيد الثاني، وحتى والده السلطان سليم الأول الذي كان قد توجه غربًا بهدف فتح بلغراد باعتبارها بوابة أوروبا، إلا أن القدر لم يمهله، فتوفي أثناء رحلته إلى أدرنة للتحضير لهذا الفتح.
وكما يقول محمد فريد في كتابه “تاريخ الدولة العلية العثمانية” دخل السلطان سليمان القانوني مدينة وقلعة بلغراد وصلى الجمعة في إحدى كنائسها، وصارت هذه المدينة التي كانت أمنع حصن للمجريين ضد تقدم الدولة العلية أكبر مساعد لها على فتح ما وراء نهر الدانوب من الأقاليم والبلدان، حينها أعلن السلطان القانوني هذا الانتصار إلى جميع الولاة وملوك أوروبا ورئيس جمهورية البنادقة.
أقام السلطان في المدينة نحو 19 يوما، وقبل الرحيل قرر أن يحصنها بـ200 مدفع وعدد كافٍ من الجنود قبل أن يبدأ رحلة العودة إلى إسطنبول، وهكذا أنهى الجيش العثماني حملته التي بدأت في الخامس من رمضان من عام 927 هجريا، بتحقيق ما وصفته المصادر العثمانية بـ”الفتح المبين”، وذلك في 29 أغسطس/آب 1521.
وكان فتح بلغراد سببا مباشرا في تمهيد الطريق للعثمانيين زمن السلطان سليمان القانوني بل وأحفاده من بعده على حصار فيينا عاصمة النمسا مرتين على التوالي في القرنين الـ16 والـ17، وترسيخ سيادة الإسلام في هذه المناطق لعدة قرون.