في مكتبات صغيرة في أحياء مكة، قرأ كتب الشعر الشعبي ومروياته الكثيرة، والسير الشعبية، كالأمير حمزة البهلوان، وفيروز شاه، وسيف بن ذي يزن وغيرها.
كانت كتب الأدب الفصيح التي قرأها فيما بعد من روايات وقصص وبعض المسرحيات سبباً في كونه اليوم واحداً من أهمّ كتاب الرواية في السعودية، إذ صدرت له أعمال إبداعية في القصة والرواية؛ منها: أكثر من صورة وعود كبريت، قنص، المنهوبة، طيور الغسق، نار المرخ، المهرّب، على مرمى صحراء.. الروائي والكاتب عواض شاهر العصيمي في هذا الحوار:
• دعنا نبدأ من علاقتك بالقراءة الأدبية والكتابة، كيف بدأت؟
•• بدأت أتعرف على القراءة وأنا في الرابعة عشرة، جذبتني أولاً الحكايات التي كانت تلقى شفهياً في مجالس كبار السن، وسمعت خلال هذه الفترة الكثير منها، لكني لم أستطع إنشاء حكاية من عندي، كان اختراعها صعباً. ثم علمت من أبي (رحمه الله) أن الحكايات التي سمعتها واقعية، حدثت في حياة البدو الرحل ثم راحوا يتوارثونها كما يتوارثون الإبل بالعدد والقيمة. لاحقاً، علمت أن جل ما سمعته كان عبارة عن سير حياتية مروا بها في أثناء الحل والترحال. وفي تلك اللحظة فهمت لماذا لم أستطع إنشاء حكايتي، ذلك أنني لم أعش ولم أجرب من الحياة ما يكفي لأروي حكايتي. أما التعرف على القراءة فقد بدأ مع قراءة كتب الشعر الشعبي ومروياته الكثيرة التي كانت تباع في مكتبات صغيرة أجدها في بعض أحياء مكة. ثم انتقلت، بسبب اهتمامي بالكتب الذي كان بسيطاً، إلى السير الشعبية، الأمير حمزة البهلوان، فيروز شاه، سيف بن ذي يزن وغيرها، وكانت تتوافر في تلك المكتبات أيضاً. تلك المرحلة المبكرة من حياتي كانت أهم فترة انتقلت فيها من السماع إلى القراءة. ذلك أنني في فترة لاحقة دخلت عالم كتب الأدب الفصيح، روايات وقصص وبعض المسرحيات، وكان من المبكر أن أقرأ في كتب النقد.
• هل أُنصفت تجربة عواض شاهر الإبداعية نقدياً؟
•• في البداية، أي قبل سبع وعشرين سنة تقريباً، كنت أكتب وأنشر طمعاً في أن يتلقاني النقد بالاهتمام. كتبت العديد من القصص القصيرة، وكانت مجلة اليمامة تنشرها من باب التشجيع، وكان الشاعر محمد جبر الحربي -محرر القسم الأدبي في تلك الفترة- يبحث في الرسائل التي تصل إلى مكتبه عبر البريد الورقي عن مواهب يتوقع منها أن تتطور مع مرور الزمن، وكنت أحد المحظوظين بوجوده، والحقيقة أنه بنشره قصصي البسيطة، تشجيعاً منه لي ودعماً غير مباشر لأواصل الكتابة، وقد فعل هذا مع كثيرين غيري، هو بذلك الفعل الأدبي النبيل عزز عندي فكرة الاستمرار. لو أنه تعامل مع نصوصي باستعلاء أو بتجاهل، هل كنت سأستمر إلى اليوم؟ لا أدري، لكن احتمال التوقف عن الكتابة والقراءة نهائياً، كان سيكون قريباً من ذهني. اليوم، بعد كتابة روايات عديدة وقصص كثيرة، خلصت إلى أن الكتابة الإبداعية هي مهمة الكاتب الأساس، ولا شيء آخر. النقد سيأتي قطعاً، لكن على الكاتب أن يكتب بأفضل ما لديه من إمكانات. المبدع لا يغيب ولن يغيب عن النقد، هذا مؤكد. أكثر أعمالي الروائية تناولها النقد، وقدمت عنها دراسات ماجستير ودكتوراه، وتعرفت من خلالها على قراء ذوي وعي أدبي عالٍ، وكانت سبباً في المشاركة في ندوات وأمسيات أدبية في مدن عديدة محلياً ودوليا. أنا مدين لكتبي أكثر من أنني مدين لاهتمام الآخرين بها مع تقديري واعترافي بفضلهم. منتج الكاتب هو وسيلته الأهم في التعريف بنفسه وليس هناك وسيلة أخرى لها نفس التأثير والفاعلية والمصداقية. المبدع وغير المبدع، لن يقدما للقارئ والناقد والباحث صورة عنهما أصدق مما يمنحه نتاجهما الأدبي.
• لماذا يعجز الكاتب عن نقل مشاعره وانفعالات شخصياته في كتابة أدبية صادقة ودقيقة؟
•• هل يعجز حقاً؟ هل العجز هنا هو بمعنى خيانة الحقيقة المكلفة (الحقيقة الفنية) بصنع الشخصيات وإثارتها على مستوى المشاعر والأحاسيس؟ لا أظن أن الكاتب الجيد، الحاذق في فنه، يعجز عن جعل شخصيات عمله تشعر بكينونتها التي من الضروري أن تكون حاضرة ليُكتب للعمل شيء من روح الأدب والمصداقية الفنية. صحيح، هناك فرق بين الواقع الذي نعيشه ونتلقى أحداثه ووقائعه المادية والمعنوية كل يوم، وبين الواقع المتخيل، الذي يلوذ به الكاتب ليعبر عن أفكاره. نحن لا نستطيع أن نتحدث عن كل شيء في الواقع المباشر، لأن الحديث عنه على هذه الصورة ليس مهمة القصة والرواية الأدبية. الكتابة الأدبية، سواء أكانت قصة قصيرة أم رواية، عمادها الخيال والمجاز، وعلى هذا هناك مسافة بين الحقيقة الموجودة في الواقع المباشر، والحقيقة المقروءة في القصة أو الرواية. الثانية حقيقة تستجيب للفن، حقيقة مدعاة في صورة شخصية من الشخصيات (المتخيلة) لكنها تحفل بالصدق الفني، أو يجب أن تحمل قدراً منه. هل يعجز الكاتب عن هذا الحِمْل؟ لا أعتقد، إلا إذا كانت قدراته التخييلية ضعيفة، أو تكبله مهارة هشة في الخبرة الروحية.
• هل يمكن صناعة كاتب نجم؟ وما الأضرار المترتبة على ذلك؟
•• في رأيي، ليس هناك تنافر أبدي بين النجومية والكاتب، ما دامت القيمة الكلية تتجه لمصلحة النص. الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي، وصفت رواياته من قبل بعض النقاد بالصعبة، لكنه يعد اليوم أحد أشهر وأهم الكتاب، فهو في عداد النجوم بالنسبة لقرائه. وفي المجمل هناك كتّاب حازوا جائزة نوبل أصبح أكثرهم من النجوم على مستوى العالم. فالنجومية من هذا الباب تقاس بجودة العمل الروائي أو الأعمال الروائية المطروحة، وتقاس أيضاً بعدد بيع النسخ التي ينبغي أن تكون بالملايين، وتترجم إلى لغات كثيرة، وتثار حوارات نقدية وأدبية حول الكاتب. ماركيز على سبيل المثال يعد نجماً في الرواية والقصة، وهو الذي ترجمت كتبه إلى لغات كثيرة وأصبح بالتالي شخصية أدبية معتبرة في عالم الأدب. هذه نجومية مستحقة. لكن سؤالك عن صناعة كاتب من الكتاب ليكون نجماً، وهذا يختلف عن الإعداد الذاتي ليكون الكاتب نفسه نجماً في الأدب، على أن يكون الأدب المقصود هو ما نعنيه حين نحدد أكثر فنقول إنه الإبداع والتميز في جنس من أجناس السرد. الكاتب المزود بمساعدة خارجية بقصد أن يكون نجماً في فترة من الفترات، ضمن مقاييس توجه معين من توجهات السوق الاستهلاكية، هذا الكاتب في نظري يدخل في حاجة السوق للسلع الأكثر مبيعاً، وحتماً سينتهي دوره عندما تفكر الجهة الصانعة في سلعة أخرى تحل محلها. وهو على هذه الصفة يضمر بسرعة مدركاً أن أكبر إنجازاته أنه كان في أحد الأيام لعبة في عقلية السوق. أما الكاتب المؤهل من داخله بمقومات أدبية قوية وصلبة فإن نجوميته مفهومة بل مستحقة.
• كيف تنظر ككاتب لعلاقة المبدع بالقارئ؟
•• غالباً هي علاقة بالمكتوب وليس بالكاتب، فالقارئ لا يقرر فوراً أن يقرأ لهذا الكاتب أو ذاك الكاتب لمجرد أنه فلان الروائي. طبعاً هناك استثناءات، يكون الكاتب فيها هو الاسم الأعلى صوتاً من الرواية. لكن هناك عوامل تحدد العلاقة بين الكتاب والقراء. بعضها لا علاقة له بالعمل نفسه، مثل التوزيع الجيد، والإعلان المصاحب. أعتقد أن النقد في الوقت المناسب هو من أهم أسباب انجذاب القارئ لرواية ما. عندما كتب الناقد المصري رجاء النقاش عن رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» كانت كتابته تلك هي أهم أسباب انتشار الرواية على نطاق واسع. وفي المقابل، كان من سوء حظ رواية «أيام الإنسان السبعة» للروائي عبدالحكيم قاسم، أنها صدرت في نفس الفترة، وهي رواية متميزة لا تقل جودة عن رواية الطيب صالح ولكنها لم تشهد في تلك الفترة تحولاً في مسيرتها الهادئة إلى القارئ؛ لأن أحداً من النقاد المعروفين مثل رجاء النقاش لم يكتب عنها. هكذا قيل في إحدى الندوات النقدية، التي عقدت في الإسكندرية كما أظن، بعد طبع الروايتين بسنوات عديدة. فالقارئ في تصوري يتحرك أحياناً خلف النقد، ومن خلال النقد يزود فضوله برغبة الاكتشاف والبحث. في بعض الأحيان، تتشكل شهرة الكتاب بسبب موضوعه المثير للجدل، ولنتذكر على سبيل المثال، أن رواية رجاء الصانع «بنات الرياض» انتشرت انتشاراً واسعاً بسبب الجدل الذي أثارته بين بعض المنتمين للصحوة وفريق من الأدباء والحداثيين في بداية صدورها. الجوائز الأدبية أيضاً لها دور في تحريك فضول القراء. كل هذه الأسباب تصنع شكلاً من أشكال العلاقة بين الكاتب والقارئ. غير أن القارئ يمكن أن يكون صناعة أدبية من الكاتب نفسه، وذلك من خلال معاشرة طويلة الأمد بين منتج الكاتب والقارئ الذي تعرف عليه منذ الرواية الأولى واستمر يوالي قراءة إبداعه أولاً بأول حتى تشكلت لديه بصمة يعرفها عن كاتبه ويجادل حولها. هذا النوع من القراء ذوي الإخلاص المدهش هو الذي يمكن الحديث عنه على الصعيد الروحي والأدبي في علاقة المبدع بالكاتب.
• الجوائز الأدبية، كيف تراها؟
•• تخيل أدباً دون جوائز؟ قطعاً، لن يخرج من دائرته الخاصة، ودائرة المتلقين القلة، وقد يضمر مع مرور الزمن وقلة الاهتمام. الجائزة ضرورية مثلما أن الأدب ضروري. لكن المهم في هذا الشأن هو المصداقية والوزن الأدبي للجائزة. في نظري البسيط، لا بد أن تمثل الجائزة (كفكرة وكمشروع أدبي) الطموحَ الحضاري الذي يعكس مفاهيم أوسع. أقصد في التعامل مع الأدب على أنه منتج يخلق معانيه المتشاركة بحيوية مع المنتج الكوني؛ أي أنه أدب غير منكمش على نفسه في قضاياه، ومن شأن هذا أن ينقل الكاتب المحلي إلى العالمية. وذلك لا يتحقق إلا بما لديه من رؤى إنسانية وأيضاً بما لديه من مؤهلات إبداعية في التعبير عن زمنه ومجتمعه بروح الإنسان ذاته الذي جعله يكتب. هل الجائزة الأدبية تشهد للفائز بالإبداع أو تدل على رهانها الرابح في اختيار فارسها؟ الأحكام النقدية التي تنتهي إليها أية لجنة تحكيمية عن أية جائزة، ليست سوى وجهات نظر الأعضاء، ليست ضمانة لا تقبل النقاش على جودة النص الفائز، ولكنها أقرب إلى أن تكون شهادة على تقارب وجهات النظر حول أفضل الموجود، وإن كان هذا الحكم النقدي لا يعني أن الأعضاء أنفسهم هم أفضل الموجودين. لذلك أعتقد أن العمل الجيد، بعيداً عن كرنفالات الجوائز، هو بمثابة جائزة لكاتبه، وهو أيضاً تكريم للقارئ، بغض النظر عما إن كان فاز أم لم يفز، شارك في المسابقة أم لم يشارك.
• هل الكتابة لديك تعد الأكثر أهميّة، أم أنّ هناك أشياء أخرى تزاحمها؟
•• الكتابة هي الأكثر أهمية لدي في وقتها فقط، والوقت غالباً لا يتجاوز سويعات يومية إذا استصحبت الكثير من العزم والجد. خارج هذا الهم، أعيش حياتي بهدوء.
• صراع المثقف بين المكان والمكانة.. عن أيهما يُبحث؟
•• هذا الصراع موجود عند البعض، هناك من يدخل إلى الثقافة من باب البحث عن مكانة إدارية أو اجتماعية يحلم بها، أي أن العمل الثقافي ليس هو المكانة التي أعد نفسه لها وإنما هو مجرد شغل للوصول. وحول هذا الموضوع كتبت في أحد المنشورات «هناك مثقف تهمه المكانة، وهناك مثقف يهمه المكان». هناك فرق. المكانة للمهتم بصعوده الشخصي هي مكان لإبراز الاسم وبناء السمعة والحصول على امتيازات تعنيه في شكل مباشر. أما المكان فهو مشروع من داخل الثقافة برؤية ثقافية مع استعدادات ملائمة لتحقيق الرؤية التي يسعى إليها كمثقف. هذه هي المكانة المضادة للنوع الأول، وهي المسار الطبيعي لإحداث فارق على مستوى الكيف والكم.
• كيف يمكن للكاتب أن يرضى عن فكرته ويكتبها؟
•• «لترض عن الفكرة، أتقن كتابتها، وإذا كتبتها، لا تطمئن إليها»، هذه العبارة التي نشرتها في منصة (X) في الأول من نوفمبر 2024 هي من خلاصات تأملاتي حول الفكرة قبل أن تتجسد في نص، وقد حاولت فيها أن أضع تصوراً عن قيمة الارتباط بالفكرة حين نشعر بالرضا عنها، ومن البديهي أن نقول إنّ الفكرة التي ترضينا ينبغي أن تتسم بجدة على مستوى المجيء، أو على الأقل تكون جديدة بصورة ما، ولكن هذا ليس نهاية المطاف، بل ينبغي أن نتقن كتابتها، والإتقان صورة من صور الإبداع في العمل الأدبي، وحين يكتمل الإتقان في تقديرنا الأولي، ينبغي أن نستبعد الاطمئنان إليها، وذلك أن النص الأدبي لا يستقر في صورة نهائية من وجهة نظر كاتبه، وهذا ما يجعله عرضة للتحسين والتطوير عند كل مراجعة، فالاطمئنان النهائي ليس من أدوات الكاتب حين يعيد قراءة نصه.
• لماذا اللغة الثانية للأديب مهمة؟
•• اللغة الثانية بالنسبة للأديب في غاية الأهمية، وكل ما يمكن قراءته من آداب تلك اللغة على مدى حياة كاملة، يقل عن أن يوصف بالأهمية ذاتها التي أدرك فيها قدرة اللغة على تغييره، بل واحترام تأثيرها فيه، ويضاف إلى ذلك أنه ستزداد قناعته بأنه اقترب شيئاً قليلاً من دائرة الإنسان الكوني، وأنه بقدر ما يتعلم يصبح أقرب إلى تمثل المشتركات التي تضم البشر في مفهوم إنساني تعايشي ليس مع الحرب والدمار، ولكن لا تستطيع اللغة وحدها فرض رأيها على المغامرين في ملئها بمصطلحات العسكر والسياسيين، ومن هنا فإن الجانب الآمن منها هو تعلمها لتكون النسبة الإنسانية أعلى في الشعور بالآخر، وتعلم آدابها لتكون الصلة بالروح أكبر. أعتقد أن هذا هو دور الأديب في قراءة الآخر (بل الآخرين)، فإن كان لا يتحدث لغة ثانية على هذه الصفة من الإحساس والوعي فهو أعمى.
• هل يحتاج العالَم لكتبنا وإبداعاتنا؟
•• هل يحتاج العالم إلى كتبنا وإبداعاتنا، كما نحتاج نحن إلى كتبهم وإبداعاتهم؟ ما الفرق الذي سنصنعه لديهم؟ الفرق الإبداعي أو الفكري أو المعرفي؟ إن كان لدينا ما نستطيع أن ننشئ به حواراً خلاقاً مع أفكارهم ومعارفهم، إن كان لدينا ما يمثل (حين يقرؤونه) تحولاً نوعياً في نظرتهم إلينا، وبالتالي يستطيع هذا التحول أن يغذي قلقاً من أي نوع مهم في سياق اكتشاف من نحن بالنسبة إليهم بعد القراءة، فإن الترجمة بالرغم من ذلك تبقى أداة بسيطة من أدوات إعادة التعريف بنا عند الآخر، وإعادة تحريك فضوله تجاهنا، وهذا الفعل لن ينجح في مدة وجيزة بل سيستغرق فترة طويلة، وحينها قد لا يجدي ما بذلناه من جهود ترجمية في هذا الشأن لأن الزمن يمر بسرعة كبيرة حاملاً معه تغيرات كبيرة في شتى المجالات. ولذلك، ولسوء الحظ، أو التدبير، فإن كثرة المترجمين لآدابنا وثقافتنا في هذه الأيام يتحرك معظمهم ضمن خططه الخاصة (ومن أهمها الوفرة المالية المتوقعة من مشاريع الترجمة)، وكأن الروايات لا تكتب إلا عندنا، أو الشعر أو القصة، ثم يلقون ما ترجموا في أسواق أخرى متشبعة للغاية بنفس البضاعة، بل لديها مراكز ثقل في الإبداع والنشر والنقد والصحافة تتلقفها أطراف كثيرة من العالم باعتبارها صناعة كبرى تنتج الآراء والتوجهات والأفكار، فما هو الفارق الذي سنحدثه في أسواقهم ونقاشاتهم ومنتدياتهم؟ إذا كان المترجم العربي تشده إلى الترجمة مصالح السوق المحلية، (لا أعمم) وليس انطلاقاً من مشروع أكبر يمثل أجود ما لدينا ضمن خطة استراتيجية تخاطب العالم، بل وتستفزه، فإن ذلك المترجم المسكين ستبقى حدوده هي المراهنات السقيمة نفسها التي ادعت وتدعي نشاطاً في الترجمة والتسويق (إلى العالم) وعلى نحو خاص، التركيز على ترجمة الروايات أكثر من سواها، دون وصول حقيقي إلى القارئ الآخر، وإنما لترضية المزاج المحلي (مزاج المؤلف الفائز بجائزة أدبية عربية توصف بالعالمية) ومزاج الناشر، ومراعاة لخاطر التيار الذي ينتمي إليه الفائز، وليس أكثر. أما قارئ ما بعد الترجمة في أية دولة مستقبلة للكتاب المترجم، فالمسافة بينه وبين الكتاب كبيرة.
• الأعمال الإبداعية السعودية تُرجمت في السنوات الأخيرة بكثرة إلى لغات أجنبية مختلفة.. كيف تنظر لهذه التجربة؟
•• ترجمة الأعمال الإبداعية، التي اتسمت بالنشاط في الآونة الأخيرة، هي من أهم المبادرات التي أطلقت بتوجيه من وزارة الثقافة ومتابعة من عدة جهات، وهيئة الأدب والنشر والترجمة هي الطرف المهم الراعي لهذا المشروع المهم للغاية. أخيراً، سنتيح للعالم، أو للثقافات التي تترجم أعمالنا إليها، أن يطلعوا على ما لدينا من أدب بمختلف أجناسه، ولكن الرواية على وجه الخصوص نالت حيزاً أكبر في مشروع الترجمة، وبالرغم من ذلك ما تزال النسبة قليلة وغير كافية. نحن نقرأ أعمالاً روائية وشعرية من الصين واليابان وأمريكا اللاتينية وأوروبا وأمريكا ومن كثير من البلدان في أرجاء كثيرة من العالم، نقرأ في الروايات قوة الأدب في نقل أفكار الشعوب وعاداتها وتقاليدها والتحولات التي حدثت في تاريخها، فنشعر ونحن نقرأ حيوات تلك الأعداد الهائلة من البشر أنّ من أهم ما يقرب بين المجتمعات هي التجارب الإنسانية التي روتها أعمال أدبية وصلت إلينا عبر الترجمة. فالروايات هي مراسيل الثقافات والنبض العميق للشعوب. وحين نفكر في هذا الأمر، نجد أن من المهم أن نرد إليهم الديْن بنفس الطريقة، أي أن تصل إليهم أعمالنا الإبداعية عبر الترجمة.
• ما الأشياء المهمة التي يمكن لكتابة الرواية أن تعلّمنا إياها؟
•• أظن أن من مهمات الرواية الأساسية هي الاقتراب من الإنسان في لحظة ضَعف أو انكسار. إنه على هذه الحال يقترب كثيراً من حقيقته البشرية، وبالنتيجة هو يفصح عن نفسه تحت ثقل الحاجة إلى آخر يستمع إليه، وهذا ما يجعل الكاتب انتهازياً ليكون في المنطقة المناسبة لوصف الحالة، والتعمق في شأنها على هذا النحو. ولا يظهر ذلك سوى الكتابة الكاشفة من أقرب مسافة. ومما نتعلمه من كتابة الرواية أيضاً أن الكاتب في لحظة الإبداع، هو أقل عمراً بكثير منه في حالته العادية التي يبتعد فيها عن الكتابة ويندمج في حياته الاجتماعية. الكتابة فقط هي التي تدخله لحظة الأفكار والابتكار. القراءة أيضاً، العميقة بالذات، تضفي حالة من الانفكاك عن مجريات الواقع المعيش، لكنها تأتي في المرتبة الثانية بعد الكتابة الإبداعية. أيضاً، تعلمنا الكتابة الصبر، والتريث، وإعادة النظر فيما أنجز، وتعلمنا عدم الوثوق بالرضا الناشئ من انطباعاتنا الأولية عن النص. إنها تعلمنا أشياء كثيرة.
• الناقد لدينا، لماذا غاب؟•• الناقد موجود، والأسماء كثيرة، كما أن الكتاب والأدباء كثيرون، لكن الغائب في رأيي هو المظلة التي تأتي بالجميع إلى منطقة الفعل والمشاركة في صورة تكاملية خلاقة. لم تستطع الأندية الأدبية في الفترة الماضية أن تأتي بالحل، والآن هناك أمل من خلال مؤسسات مثل هيئة الأدب والترجمة والنشر، جمعية الأدب، المقاهي الثقافية والشريك الأدبي، ولكن تظل التطلعات أكبر من الواقع.
• تجربة المقاهي الثقافية، كيف تراها؟ وماذا عن الموقف المعارض لها لدى كثير من الأدباء؟
•• تجرية المقاهي الثقافية هي من مخرجات الواقع الجديد في المملكة، وللرؤية 2030 أهمية كبيرة في ترجمة المشاريع الثقافية إلى واقع يعيشه الناس. الأدب في عمقه الإنساني والثقافي هو نقطة التقاء بين المبدع أو المثقف والناس، والمساحة المناسبة للقاء هي في التفاعل المباشر بين المثقف والجمهور، في طرح الأسئلة والاستماع إلى الآراء، وذلك بدون برتوكول ثقافي ينظم الكلام بين الطرفين. كانت الأندية الأدبية تستضيف أدباء ومثقفين، وكان هناك بعض من يحضر من الجمهور، لكن الخلاصة من هذا اللقاء أن الجو الرسمي في إدارة الحوار يهيمن على اللحظة، فتكون النتيجة افتراق الطرفين على إعلان انتهاء اللقاء مع إسداء الشكر للجميع. وتظل المسافة ممتدة بطول الأسئلة التي لم تطرح على الضيف. الجمهور يحضر ليجتمع مع الأديب والمثقف ويسأل ويتلقى في نفس المستوى من الاهتمام. ما نلحظه في أجواء المقهى الثقافي أن إعداد اللقاء نفسه يكون جزءاً من المشهد في الأمسية، ليس هناك ترتيبات كبيرة قد تنقل اللقاء من حالته الاعتيادية السهلة المنفتحة إلى جو المحاضرة المحمولة على الجد والرصانة الأكاديمية. اشتركت في أمسية ثقافية برعاية أحد الشركاء الثقافيين في إحدى المدن فلم أشعر بغربة تفصلني عن الحضور، بل هيأتني طبيعة اللقاء العفوي لأتحدث على راحتي في الهموم الثقافية ومشاغل الكتابة والحديث عن تجربتي في السرد دون تحضير نفسي فوق الحاجة. لا أدري لماذا، كلما شاركت في أمسية أدبية في ناد أدبي في تجاربي السابقة، أشعر بأني منفصل عن لحظتي العادية التي أحبها. قبل عشرين سنة أو أكثر كتبت مشاركة صغيرة لإحدى الصحف تمنيت فيها أن تقام الأمسيات في فضاءات مفتوحة على الناس في الهواء الطلق وقد تحقق هذا الآن بفضل السياسة الجديدة للأدب والثقافة التي هيأتها الوزارة.
• الأسماء التي تدير المشهد الثقافي اليوم، هل توقفت عن الكتابة والقراءة واكتفت بالكاميرا والأضواء بالفعل؟
•• اطلاعي ضعيف على المشهد الثقافي بصورة تفصيلية، لكن من المتوقع أن يتوقف الكاتب عن مشروعه الأدبي بعض الوقت لانشغاله بمهمات إدارية كلف بها، هذا طبيعي، لكن التوقف التام النهائي لا يحدث إلا نادراً، وعادة ما تكون وراءه أسباب من الخارج. لكن من المهم القول إنّ سطوة الكاميرا واشتهاء الأضواء هما من الإغراءات ذات التأثير الكبير على الإنسان في هذا العصر، من الصعب النجاة منها. إنه يحصل على قدر من الرضا الذاتي بعد حوار قصير جداً مع الفلاش، وقد يمثل له وقوفه الخاطف أمام الكاميرا لحظة انتصار لم يجدها في فضاء آخر. لذلك، قد تطغى هذه السطوة على المبدع فتجعله يستهلك الكثير من الوقت في الاستسلام لها، وهذا يؤثر بقدر ما على نموه الإبداعي.
• قوائم الكتب التي ينشرها كتاب ومبتدئون في عالم القراءة مع كلّ معرض كتاب.. كيف تراها؟•• هناك من يعرضها على متابعيه في مواقع التواصل الاجتماعي ليشاركه المتابعون في تجربته القرائية مع القائمة. وأحد الأسباب، أن بعض القراء يفضل خدمة من هذا النوع، لئلا يبذل جهداً في البحث. لكن هذا النشاط قد يمثل عائقاً أمام حرية القارئ في اختبار أدواته في الاكتشاف. لأتحدث عن فائدة اختيار كتاب من الكتب، قيمة اختيار كتاب نشتريه لأول مرة، ليست في كونه جاء في إحدى القوائم المعروضة، بل تكمن القيمة في اقتنائه لتقليص هامش الخطأ في المرة القادمة، في تطوير المعرفية الحدسية لدينا بأن هذا الكتاب الذي اشتريناه الآن تدعمه خبرة سابقة في اقتناء أمثاله في مجاله، أو لا تدعمه أية خبرة، وإنما توافر لدينا حدس جيد في اختيار الكتاب المناسب. هذه التجربة التي لا بد منها للقارئ، تلغيها كثيراً أو قليلاً فكرة الاعتماد على القوائم في البحث. دون أن أعتمد على هذه القوائم، طورت آلة الاختيار لدي من خلال خبرتي في الاستجابة لمعرفتي الحدسية فيما أشتريه وما أتركه. أقع في أخطاء، كأن اكتشف أن هذا الكتاب لم يعطني ما أبحث عنه، ولكن الخطأ هنا يعتبر صواباً، لأنه سيقودني لاحقاً إلى كتاب جيد.
• كيف ترى الرواية السعودية اليوم؟•• لم أقرأ كل ما نشر من روايات سعودية، وهي بالآلاف إذا ما حسبنا منتج 30 سنة مضت، أو أكثر، لذلك لا أستطيع إبداء رأيي بصورة قطعية، لكنا ما نزال نكتب الروايات، كتاباً وكاتبات، وما زلنا نريد أن نكتب المزيد. من المفترض أن يتولى النقاد الإجابة عن هذا السؤال، لكن النقد لدينا يتحرك على مستوى أفراد وليس على مستوى مشروع شامل ينتظم فيه الكثير من النقاد والباحثين عن الرواية في السعودية. لو حدث هذا، سيكون حينئذٍ إجابة مهمة عن سؤالك.