تشهد مؤسسة “سميثسونيان” الثقافية في واشنطن، وهي واحدة من أعرق المؤسسات المتحفية والبحثية في الولايات المتحدة، حالة من التوتر المتصاعد بعدما باتت أحدث هدف لحملة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الرامية إلى إعادة صياغة الثقافة والتاريخ الأميركيين، وفق رؤيته الخاصة التي تنتقد ما يسميه “الإيديولوجيا المثيرة للانقسام”.
تأتي هذه الخطوة في إطار أمر تنفيذي وقّعه ترامب مؤخراً، يسعى من خلاله إلى “تطهير” المؤسسة من الأفكار التي يعتبرها “غير مناسبة” أو “مناهضة لأميركا”، بما في ذلك التوجهات التي تعزز التنوع العرقي والثقافي، وتلك التي تناهض العنصرية وتناصر حقوق مجتمع الميم، وهي توجهات باتت متجذرة في برامج متاحف سميثسونيان خلال السنوات الأخيرة.
اتهامات بإعادة كتابة التاريخ
في إطار هذا التوجه، وجّه ترامب انتقادات مباشرة لعدد من متاحف المؤسسة، من بينها المتحف الوطني لتاريخ وثقافة الأميركيين الأفارقة، واتهمها باتباع “أيديولوجيا ضارة” ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ الأميركي، لا سيما فيما يتعلق بمسائل العرق والجنس والهوية. وذهب الأمر التنفيذي إلى حدّ الإشارة إلى “حديقة الحيوانات الوطنية”، التي استقبلت مؤخراً زوجاً من الباندا من الصين، باعتبارها قد تكون بحاجة إلى “تطهير” من محتوى غير ملائم.
لكنّ هذه الإجراءات أثارت ردود فعل غاضبة من الأكاديميين والنشطاء في مجال الحقوق المدنية، الذين رأوا في خطوة ترامب محاولة لطمس التاريخ الحقيقي للولايات المتحدة، والعودة إلى سردية أحادية تتجاهل معاناة فئات كاملة من المجتمع.
وقال ديفيد بلايت، رئيس منظمة المؤرخين الأميركيين وأستاذ التاريخ في جامعة ييل، إن الأمر التنفيذي “إعلان حرب”، مشيراً إلى أن ما يحدث هو “تبجّح مشين” من قبل الإدارة، التي تسعى لفرض تصوّرها الخاص لما يجب أن يكون عليه التاريخ، “وكأنها الجهة الوحيدة المخوّلة بتحديد سردية البلاد”.
بين التنوع والرقابة
تضم مؤسسة سميثسونيان شبكة تضم 21 متحفاً و14 مركزاً بحثياً وتعليمياً وحديقة حيوانات، وتُعد مرجعاً وطنياً لعرض تاريخ الولايات المتحدة بكل تنوعه العرقي والثقافي والاجتماعي. وقد أسهمت على مدى عقود في توسيع مفهوم “ما يعنيه أن تكون أميركياً”، من خلال التركيز على قصص السود والنساء والمهاجرين والمهمشين. ويقول الخبراء إن المؤسسة باتت أكثر تنوعاً وتعددية، وهو ما جعلها هدفاً لمحاولات التضييق.
مارغاريت هوانغ، رئيسة مركز “ساذرن بوفرتي لوو سنتر” المعني بمكافحة خطاب الكراهية، اعتبرت أن خطوة ترامب تمثّل “محاولة فاضحة لمحو التاريخ”، مضيفة: “تاريخ السود هو تاريخ الولايات المتحدة. تاريخ النساء هو تاريخها. وهذا التاريخ، رغم ما فيه من بشاعة، هو أيضاً رائع ويستحق أن يُروى بالكامل”.
السردية الثقافية
ويقول روبرت ماكوي، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية واشنطن، إن سميثسونيان “نشأت في منتصف القرن التاسع عشر، وتحولت كما تحولت ثقافتنا”، مشيراً إلى أن محاولات ترامب للسيطرة عليها تعكس رغبة في فرض سردية رسمية واحدة. ويحذر ماكوي من أن هذه السياسة قد تؤدي إلى استقالات جماعية في صفوف القائمين على المؤسسة، وإلى تقويض رسالتها التي تقوم على تمثيل كل أطياف المجتمع.
ويستند تمويل المؤسسة إلى الموازنة الفدرالية التي تغطي نحو ثلثي نفقاتها السنوية البالغة نحو مليار دولار، فيما يأتي الباقي من الهبات والتبرعات والاشتراكات. ورغم وجود نائب الرئيس الأميركي ضمن مجلس إدارتها، فإن المؤسسة كانت تُدار حتى وقت قريب بعيداً عن الاستقطاب السياسي، خلافاً لمراكز ثقافية أخرى مثل “مركز كينيدي” الذي سبق أن استهدفه ترامب أيضاً.
ويضيف ماكوي: “حين نفقد هذه المساحة المشتركة، نبدأ في تهميش الكثير من المجموعات. وهذه المؤسسات لا تنقل التاريخ فقط، بل تمنح الناس إحساساً بالمعنى والانتماء”.
ملامح “تطهير ثقافي”
ويبدو أن ما يصفه مراقبون بـ”الحرب الثقافية” التي يشنّها ترامب، لا تقتصر على مؤسسات ثقافية بعينها، بل تنطوي على سعي أوسع لبسط سيطرة على الهوية الأميركية ذاتها، عبر طمس الأبعاد التي تعكس التعددية والانفتاح.
وتشير تحليلات أكاديمية إلى أن خطوات ترامب تُحاكي أنماط السيطرة التي تلجأ إليها الأنظمة الاستبدادية لترويض الثقافة وتوجيه المؤسسات التي تمنح المجتمعات الإحساس بالذات والانتماء. فالأمر لم يعد مقتصراً على المؤسسات السياسية أو الاقتصادية، بل بات يمتد إلى “المتاحف والمراكز التي تروي الحكاية الجماعية للأمة”.
ويختم ديفيد بلايت بالقول: “ما هو على المحك ليس فقط متحفاً أو نصباً تذكارياً، بل هو الحق في رواية القصة الأميركية كما هي، بكل تعقيداتها وتناقضاتها وإنجازاتها وإخفاقاتها. وحين تُصادر هذه القصة، نفقد شيئاً جوهرياً من هويتنا الجماعية”.