المؤرخ السوري سامي مروان مبيض كاتب ومؤرخ سوري من دمشق، وضع كتبا وأبحاثا بالعربية والإنجليزية عن موضوعات كانت إما منسية أو مغيبة في تاريخ سوريا الحديث، إضافة إلى كونه رئيسا مؤسسا لمؤسسة تاريخ دمشق ومستشارا في مؤسسة الأمير عبد القادر الجزائري للثقافة والتراث منذ سنة 2016.
وقد تعاون مع الناشر السوري المقيم في بيروت رياض نجيب الريس ومن خلال داره أصدر سلسلة من المؤلفات: “تاريخ دمشق المنسي (2015)، شرق الجامع الأموي (2016)، غرب كنيس دمشق (2017)، عبد الناصر والتأميم (2019)، نكبة نصارى الشام (2021)، سكة الترامواي: طريق الحداثة مر بدمشق (2022) الذي وصل في القائمة النهائية لجائزة الشيخ زايد للكتاب سنة 2024، وسنة 2024 صدر كتابه الأخير “سورية في أوراق تشرشل”.
وقد ترجم مؤخرا مذكرات فخري البارودي إلى الإنجليزية التي ستصدر عن مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة سنة 2025، وهو في صدد وضع اللمسات الأخيرة على كتابه المقبل عن الحياة الاجتماعية والثقافية في دمشق بين سنوات 1948-1958.
ويؤكد المؤرخ في حواره للجزيرة نت “أنا لا أكتب لجمهور معين ولكن من أحب كتاباتي كانت شريحة معينة من السوريين الذين وجدوا فيها سردية مختلفة عن رواية البعث المشوهة عن مرحلة ما قبل عام 1963”.
ويضيف “رفضت الدخول في مرحلة البعث لأني مقيم في دمشق، وكان اعتقادي أن هذه المرحلة كانت مرحلة تهديم ممنهج، ظلمت كل الناس حتى العمال والفلاحين الذين ادعى البعث أنه جاء لإنصافهم”.
وعن معركة التغيير في المجتمع السوري التي أحدثتها “سكة الترامواي” يقول المؤرخ “لعب الترامواي دورا محوريا في تنظيم مدينة دمشق وتطويرها، اجتماعيا وعمرانيا واقتصاديا وفكريا، فجأة شعر الدمشقيون وكأنهم انتقلوا من مدينة قديمة عجوز وهرمة إلى حاضرة حديثة لا تقل تقدما عن كبرى المدن الأوروبية” وإلى الحوار:
-
ما الذي دفعكم إلى التاريخ ورواياته؟
في مرحلة الشباب المبكر تأثرت كثيرا بجدي المرحوم عدنان العلبي، ولد عام 1915، وكان عضوا في الكتلة الوطنية وقد صادرت دولة البعث وقبلها جمهورية الوحدة أملاكه الزراعية. وكان ابن عمته رئيس الوزراء الراحل جميل مردم بك (1895-1960)، وقريبه رئيس الوزراء لطفي الحفار(1885-1968).
وقضيت فترات طويلة من طفولتي في كنف جدي وكبرت وأنا أسمع عن مآثر هؤلاء الرجال، وعن الظلم الشديد الذي تعرضوا له. فقررت التعمق بتاريخ سوريا المعاصر يوم دخلت الجامعة الأميركية في بيروت، في وقت كانت فيه العاصمة اللبنانية خالية من معظم النشاطات الترفيهية بعد انتهاء الحرب الأهلية. وفيما كان يعرف يومها ببيروت الغربية، لم يكن هناك لا سينما محترمة أو مقهى لنا كطلاب، ولا حتى كهرباء أو مياه نظيفة.
وكنت أقضي معظم أوقاتي في مكتبة الجامعة، وأطالع في كتب تاريخ سوريا الحديثة التي كانت في معظمها ممنوعة في دمشق. وفي هذه المرحلة تعرفت على معلمي الأول في الحياة المهنية الوزير والنائب الدكتور منير بك العجلاني (1912-2004) المنفي في السعودية منذ سنة 1963. وكان يقضي أشهر الصيف متنقلا بين بيروت وبرمانة، وقد احتضنني بشكل أبوي وصرت أقضي معه ساعات طويلة. وهو الذي أدخلني عالم التاريخ من أوسع أبوابه، وقدم كل ما في جعبته من ذكريات وأوراق. وبتشجيع مباشر منه، قررت أن أضع كتابي الأول بالإنجليزية سنة 1998 بعنوان “سياسة دمشق في مرحلة الانتداب الفرنسي 1920-1946”. وكانت مجازفة لأنني كاتب مغمور، ولأن الكتاب كان بلغة أجنبية.
وأعترف اليوم أن هذا الكتاب كان ضعيفا جدا من الناحية الأكاديمية، وهو عبارة عن تجميع أفكار من هنا وهناك، ولكني كنت في العشرين من عمري ولا أملك مقومات وأدوات مهنية، ولكنه فتح الباب أمامي وبشكل كبير.
وجاءني اتصال وقال المتحدث: أنا باتريك سيل وقرأت كتابك وأرغب بالتعرف عليك. وبالنسبة لشاب في عمري آنذاك، كان هذا الاتصال دافعا معنويا كبيرا. ومن خلال كتابي الأول، تعرفت على عدد من الشخصيات التاريخية ولازمتها حتى الممات، ومنها الدكتور عبد الوهاب حومد من حزب الشعب، والصحفي عبد الغني العطري صاحب مجلة الدنيا، والقاضي عبد الله الخاني أمين عام الرئاسة السورية في عهد الرئيس شكري القوتلي (1891-1967) الذي كان بمثابة أب روحي بالنسبة لي، وقد احتضنني من بعد رحيل العجلاني سنة 2004 حتى وفاته سنة 2020.
-
وهل تكتب لجمهور معين ومحدد؟
أنا لا أكتب لجمهور معين ولكن من أحب كتاباتي كان شريحة معينة من السوريين الذين وجدوا فيها سردية مختلفة عن رواية البعث المشوهة عن مرحلة ما قبل عام 1963. وكنت ولا أزال مدافعا عن السلطان عبد الحميد الثاني، معارضا لجمال عبد الناصر، معجبا بنوري السعيد، وليس لي أدنى تعاطف مع الحركات اليسارية، لا أؤمن بالاشتراكية، ولا كارل ماركس، أو ميشيل عفلق.
وعندما بدأت بالكتابة في عهد حافظ الأسد، كانت مرحلة ما قبل 1963 إما غائبة تماما أو تتعرض لظلم شديد. وكانوا يصفونها بالرجعية “العفنة” ويحقرون كل من عمل فيها. ودافعت عن الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة وقلت إنهم أبطال أعطوا سوريا الكثير ولم يأخذوا بالمقابل إلا شرف الانتماء إلى هذا الوطن.
وكان ذلك في وقت يظهر به الأسد الأب بصفة المعلم الأول، والمناضل الأول، والسياسي الأول، وكأن سوريا لم تكن موجودة من قبله. وقلت إن من سبقه في الحكم هم في الحقيقة الآباء المؤسسون، وإنهم لم يكونوا إقطاعيين، وإن عبد الناصر ظلمهم قبل أن يأتي البعث لتدميرهم بشكل جماعي سنة 1963.
وعندما وضعت كتابي “عبد الناصر والتأميم” سنة 2019، جاء أحد الأصدقاء وهو ناصري وقال لي “كتابك منحاز لأنه لا يسلط الضوء على أخطاء هؤلاء ولا يعطي مساحة لرواية العمال والفلاحين”. واقترح علي إضافة فقرة عن “مكاسب” الإصلاح الزراعي والتأميم، فرفضت وقلت: برأيي لم يكن هناك أية مكاسب بالمطلق، وأنا لا أخفي أنني أكتب باسم أصحاب الأراضي المصادرة وأنا منهم، وأصحاب الأملاك المؤممة.
أخذت رواية العمال والفلاحين حقها ومستحقها في مرحلة عبد الناصر ثم في سنوات البعث، حيث لم يكن هناك أي رواية مخالفة لروايتهم. حتى في الكتب المدرسية كانوا يمجدون التأميم ويعدونه من منجزات “ثورة الثامن من آذار”. ولم أدعِ يوما أنني أعكس وجهة نظر العمال والفلاحين، ولا اليسار، بل أنا أكتب وجهة نظر “البورجوازية العفنة” كما كانوا يسمونها. وكنت وفيا لطبقتي الاجتماعية، ولا أزال أرى أنها لم تأخذ حقها التاريخي أو المعنوي.
-
عند الافتخار بالماضي لماذا يتوقف أغلب المؤرخين السوريين وأنت منهم عند عام 1963؟
أنا لا أستطيع أن أكتب عن مرحلة لا أحبها ولا أحترم تجربتها وشخوصها. هذا أولا، ولو كتبت عنها بصدق لكنت قد تعرضت لمضايقات أمنية واعتقلت. وبما أني لا أريد تجميلها أو غض الطرف عن أخطائها، قررت التوقف عند عتبة انقلاب البعث سنة 1963. ورفضت الدخول في مرحلة البعث لأني مقيم في دمشق، وكان اعتقادي أن هذه المرحلة كانت مرحلة تهديم ممنهج، وقد ظلمت كل الناس حتى العمال والفلاحين الذين ادعى البعث أنه جاء لإنصافهم.
-
هناك من يقول إن كتابات مبيض تمثل رؤية تقليدية معروفة للتاريخ السوري الحديث؟
من حقهم، وهناك أشخاص كثر لا يتفقون مع كتاباتي، ومنهم الناصريون طبعا والبعثيون والقوميون العرب. وأما بالنسبة للمؤرخين الأكاديميين، فلهم مآخذ على عملي ويعدونه “شعبويا” ليست فيه منهجية أكاديمية ويعتمد على روايات شفهية ومقابلات قد تحتمل مساحة من الخطأ.
وفي الغرب يسموننا “Public Historian” لأن كتبنا تصدر عن دور نشر تجارية وليست جامعية، مثل دار رياض نجيب الريس في بيروت ودار IB Tauris البريطانية، فهدفها البيع لا أن تدرس مؤلفاتها في الجامعات. ولكن وفي المقابل، لي أبحاث علمية صدرت عن مجلات عالمية محكمة، تبقى نخبوية للغاية ولا يقرؤها غير المهتمين من الأكاديميين والباحثين.
-
كتابكم “سكة الترامواي” هل شكّل حدثا مفصليا أثر في نمط حياة سكان دمشق؟
العنوان العريض للكتاب “سكة الترامواي” كان “الحداثة” أو معركة التغيير في المجتمع السوري التي شنت عموديا وأفقيا على 3 جبهات بين 3 مكونات اجتماعية: بين الشباب المتعلم وآبائهم المحافظين، بين الرجل والمرأة، وبين العلمانيين ورجال الدين. وتنوعت منصات الصراع وكثرت أمكنته: في الأزقة والحارات، داخل المنازل، في المساجد، في جامعة دمشق، على خشبات المسارح، في ملاعب كرة القدم، وداخل الأحزاب والأندية والصحف. ولم ترتق يوما إلى مشروع وطني جامع تتبناه الدولة السورية، ولم تتحول الحداثة إلى مشروع متكامل له بداية وأهداف مجتمعية واضحة.
وظلت معظم التجارب مرتبطة بأصحابها الذين شكلوا ظاهرة مجتمعية في وقتهم وزمانهم، وغابت كليا مع غيابهم. ولعب الترامواي دورا محوريا في تنظيم مدينة دمشق وتطويرها اجتماعيا وعمرانيا واقتصاديا وفكريا، وفجأة شعر الدمشقيون وكأنهم انتقلوا من مدينة قديمة عجوز وهرمة إلى حاضرة حديثة لا تقل تقدما عن كبرى المدن الأوروبية.
وقد تزامن العمل في ترامواي دمشق مع إطلاقه في مدن عالمية أخرى، مثل هونغ كونغ البريطانية، وارتبط ببدء العمل بمعهد الطب العثماني، ومع انتشار المستشفيات وإنارة مدينة دمشق. وساهمت شبكة النقل العام كما ساهمت الكهرباء بإنشاء أحياء كاملة خارج أسوار دمشق القديمة، وظهرت تباعا على طرفي خط مسير الترامواي خارج السور، وشيدت كلها على الطراز الأوروبي. وخلفت هذه الأحياء فضاء جديدا لأهالي دمشق، وفيه ولدت أفكار وأحلام وتجارب حياتية مختلفة عما سبق، سعت في معظمها نحو الحداثة والتغيير.
-
تقولون: أبو خليل القباني هو من بدأ عبر المسرح بأولى الخطوات نحو الحداثة والانفتاح، فكيف كانت ردة فعل السوريين؟
كل ما يشاع بأن أهالي دمشق اعترضوا على مسرح القباني هو كلام غير صحيح. وحدهم المشايخ اعترضوا على مسرحه، لأنه استعان بالطقوس الدينية، بما فيها من أناشيد وأدعية، وقام بنقلها من زوايا دمشق إلى خشبات المسارح، لتكون عرضة لتأمل الجمهور ونقده، مما ضاعف من نقمة رجال الدين عليه، وفي مقدمتهم الشيخ سعيد الغبرا أحد مدرسي الجامع الأموي، والشيخ بكري العطار الذي حاول إقناع والد القباني بضرورة إيقاف نشاطه المسرحي.
وقالوا إن عروضه كانت تلهي الناس عن عبادتهم وأعمالهم، وقد سجلت عدة حالات لعمال بسطاء هجروا ورشهم لحضور المسرح، كما تجمهر بعض النساء أمام مخافر الشرطة وقلن إن أزواجهن كانوا يغيبون عن المنزل بشكل يومي لأجل حضور مسرحيات القباني. ومارس المحافظون ضغطا على الدولة العثمانية لفصل أي موظف حكومي عن العمل إذ ثبت تعامله مع القباني، كما شجعوا الممثلين على الانشقاق عن فرقته.
وقد زاد من حفيظتهم أن القباني أظهر الخليفة العباسي هارون الرشيد بشخصية “أبو حسن المغفل” وأن معظم أعماله كانت تحكي عن الحب في علاقات خارجة عن المؤسسة الزوجية، مما اعتبروه مخلا بالآداب العامة. وعلى الرغم من كل الضغوط، استطاعت فرقة القباني أن تستقطب أبناء كبرى العائلات الدمشقية، ليعملوا فيها ممثلين ومغنين وراقصين. وكان من بينهم الممثل الشاب عطا الأيوبي الذي أصبح رئيسا للوزراء في الثلاثينيات ثم رئيسا للدولة والحكومة معا سنة 1943.
وكان وجهاء دمشق يحضرون مسرح القباني بشكل منتظم ويتفاخرون به، ومنهم حكمت مردم بك (نائب دمشق في مجلس المبعوثان) وعبد العزيز العظمة (شقيق يوسف العظمة) وعطا باشا البكري (والد نسيب البكري). وتداعى رجال الدين إلى تكفير القباني، وأيدهم في الشتم والذم كراكوزاتية الشام لأنهم شعروا بتهديد كبير من نجاح مسرحه وتراجع في شعبيتهم. ورفعت عريضة ضد القباني، حملها نقيب الأشراف الشيخ أحمد العجلاني إلى إسطنبول، واستلمها الشيخ أبو الهدى الصيادي مستشار السلطان عبد الحميد. ويبدو أن الصيادي قام بإخفائها دون الرجوع إلى السلطان، لأن عبد الحميد نفسه كان معجبا بالمسرح وله مسرح خاص في قصره.
وأرسل الصيادي العريضة إلى والي الشام أحمد حمدي باشا (1826-1885) والذي بدوره أصدر قرارا بمنع التمثيل في ولاية سوريا، وهي الحجة التي أغلق بموجبها مسرح القباني أول أكتوبر/تشرين الأول 1883. ومما لا شك فيه أن للشيخ سعيد الغبرا دور كبير في تنظيم المعروض وتجييش الشارع الديني ضد القباني، ولكنه لم يذهب بنفسه إلى إسطنبول ولم يقابل السلطان على أبواب الجامع، كما كتب وأشيع في الكثير من المراجع التاريخية.
ويؤكد هذا المؤرخ الكبير والصديق تيسير خلف الذي لم يجد صورة للبرقية في السجلات العثمانية، ولا ذكر لزيارة الشيخ الغبرا إلى إسطنبول أو لقائه بالسلطان عبد الحميد. وبناء على ذلك، فلا صحة لما نقل عن لسان الغبرا أنه قال للسلطان “أدركنا يا أمير المؤمنين فإن الفسق والفجور قد تفشيا في الشام!”.
-
ماذا عن بدايات الحركة النسوية بسوريا ولبنان في المشاركة بالحياة العامة؟ وما تقييمكم؟
بداية الحريات العامة كانت فعليا مع التنظيمات العثمانية سنة 1839 التي أسست لطبقة وسطى في المجتمع، وأصبح أبناؤها هم أداة التغيير والتطوير في بلادهم. وجاءت التنظيمات ردا على مطالب الدول الأوروبية بعصرنة الدولة العثمانية، واتخذها سلاطين بني عثمان سلاحا لسحب ذريعة التدخل الأجنبي في شؤون السلطنة الداخلية.
وهدفت التنظيمات إلى إيجاد حكم مركزي متنور في إسطنبول، مع مجتمع عثماني قوي ومتجانس، غير قابل للاختراق من قبل الدول الأوروبية. وفي هذا الجو العاصف برياح التغيير، ظهرت أول جمعية نسائية في بيروت سنة 1880، حملت اسم “باكورة سوريا”.
وفي سنة 1893، دعيت هنا كسباني كوراني لتمثيل سيدات سوريا في المعرض العالمي في مدينة شيكاغو الأميركية. ومن السيدات الرائدات في القرن الـ19 كانت أستر أزهري وهي من يهود بيروت، ومريم خالد شاعرة من دير القمر، وسلمى عرمان مؤلفة كتاب “نباهة الحيوان” والدكتورة أنيسة صبيعة بنت طرابلس الشام التي كانت قد درست الطب في إنجلترا، ورائدة الرواية العربية زينب فوزا بنت جبل عامل، وماريانا مراش التي كانت قد وضعت مجموعتها الشعرية الأولى ودخلت التاريخ كأول سيدة عربية تنشر مقالا في الصحف وتقيم صالونا أدبيا في حلب.
ثم جاءت الدمشقية ماري عجمي بمجلة العروس الرائدة سنة 1914، وتلتها نازك العابد بمجلة نور الفيحاء سنة 1920، ومعها جمعية نور الفيحاء وجمعية يقظة المرأة الشامية.
-
ماذا عن حريق ساروجا الذي التهم معالم تراثية؟ وهل نحن على موعد مع نهاية المدينة القديمة؟ وماذا قدمتم للحفاظ على دمشق القديمة؟
مدينة دمشق لا تنتهي وهي اليوم أمام فرصة تاريخية نادرة لكي تنهض من جديد. وحرائق دمشق القديمة جاءت نتيجة لعدة أسباب، منها الإهمال والفساد، ومنها ما كانت تقوم به إيران ومليشياتها الطائفية لمسح معالم دمشق التاريخية -السنية منها بالتحديد- بالتعاون مع بعض البعثيين الحاقدين على المدينة وأهلها.
وحريق ساروجا أصابني بشكل شخصي، لأن دار عبد الرحمن باشا اليوسف كان من ضحاياه، وهو دار خالي الراحل زهير اليوسف، ولوالدتي فيه حصة. وقد صادرته الدولة في ديسمبر/كانون الأول 2017 بحجة وجود حفر قد تؤدي إلى غوطة دمشق، ونحن الآن في معركة قضائية مع الدولة لاسترداده أو تعويضنا بشكل ملائم.
دار الوثائق التاريخية والانساب في ساروجا اصبحت رمادًا ايضاً، هذا المكان كان يقصده كبار السن والمهتمين بالانساب واستخراج الوثائق وشجرة العائلة، واثبات مثلا ان النسب ممتد الى النبي صلى الله عليه وسلم.
من مصلحة من ان تحترق كل هذه الوثائق؟ من مصلحة من ان تندثر كل هذه المعلومات…
— Abd alhade alani (@abdalhadealani) July 16, 2023
ثم جاء الحريق الكبير في 16 يوليو/تموز 2023 الذي طال طابقه الأرضي، وما كان أن يصل إلى الطابق العلوي لولا استخدام فرق الإطفاء للمياه التي أدت إلى انهيار الخشب في زواياه وأسقفه. وعلى المستوى العائلي لجأنا للقضاء، وعلى مستوى “مؤسسة تاريخ دمشق” تمكنا من حفظ آلاف الوثائق من دار الرئيس خالد العظم المجاورة، وهي التي كنا نقوم بأرشفتها ونسخها رقميا، تفاديا لهذا اليوم الذي قد يضيع فيه كل شيء.
وهي الآن في حوزة “مؤسسة تاريخ دمشق” ونحن على استعداد لمشاركتها مع أية جهة ترغب الاستفادة منها، مثل قناة الجزيرة أو المعهد العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة. وقد أنقذنا مجموعة أوراق فخري البارودي كاملة، وغيرها الكثير من أوراق سوريا الحكومية العائدة إلى مرحلة ما قبل عام 1958. وهي ليست ملكا لنا بل لكل السوريين، ويجب أن تصبح في متداول يد الجميع.
-
بعض كتاباتكم تنكر حقائق متعارفا عليها كقصة ذهاب الجنرال الفرنسي غورو لقبر صلاح الدين؟
هناك الكثير من الروايات المتداولة شفهية والتي تحتاج إلى توثيق. بعضها مختلق تماما، مثل قضية الجنرال الفرنسي غورو وقبر صلاح الدين، وكلام الرئيس شكري القوتلي إلى عبد الناصر عشية الوحدة مع مصر بأنه تسلم منه شعب نصفه يعد نفسه نبيا والآخرون يرون أنفسهم آلهة. معاذ الله أن ينطق القوتلي بكلام كهذا بحق الشعب السوري.
ولا أحد يريد أن يعترف أن جلاء الفرنسيين كان نتيجة تغير في الظروف الدولية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبأن الإنجليز كانت لهم اليد الطولى في استقلال سوريا سنة 1946. ولسنوات طويلة كانوا يقولون كل صبح وظهر ومساء إننا انتصرنا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو كلام غير دقيق، ويحملون الطبقة الحاكمة قبل سنة 1963 مجموعة من الاتهامات الكاذبة بأنهم كانوا “عملاء” للغرب ولحلف بغداد وكل ما هنالك من اتهامات. وعلينا إعادة قراءة تاريخنا بشكل علمي ومنصف بما عليه من أخطاء وما له من مآثر.
-
تزامنا مع الثورة السورية التي توجت بسقوط النظام، هل كان الغالب على تلك الفترة تزوير التاريخ؟ وهل ستكتب عنها؟
كنت شاهدا على تلك الأحداث ولكني لم أشارك بها، لذلك لا يحق لي أن أكتب عنها وأن أدعي بطولات لم أقم بها. وبطولتي الوحيدة -إن صح التعبير- أنني وهبت نفسي وأعطيت كل ما أملك من حب لبناتي الثلاث، وبأني كنت ملازما لأبي على فراش المرض بكل لحظة وكل دقيقة، وقد أنزلته بيدي إلى مثواه الأخير سنة 2020.
وقد أكتب عن تجربتي الشخصية في سنوات الحرب والثورة، ولكنني أفضل أن يأتي شخص آخر لكتابة تاريخها بشكل علمي. ونحن جميعا مشوهون من الداخل، وسنكون عاطفيين للغاية عند الكتابة عن هذه المرحلة من تاريخنا.
-
هل شكل لكم سقوط نظام بشار الأسد بالطريقة الدراماتيكية مفاجأة؟
ما لم يفاجئني كان هروبه السريع من العاصمة، بهدف إشعالها واختلاق الفتنة بين أبنائها. كان يريد لمذبحة أن تقع، وهو ما لم يحصل بفضل وعي كل السوريين. ترك سوريا بما فيها ومن فيها، بعد أن أفقر شعبها وجوعهم. وأدار ظهره على كل من مات فيها لأجله أو بسببه. كمؤرخ لم أفاجأ بسقوط الأسد، فلا يوجد نظام عاش إلى الأبد، لا ستالين ولا هتلر أو صدام، ولا القذافي أو ميلوسوفيتش. فالشعب يقهر ولا يقهر، ومن عاش وحكم بالسيف فلا بد له أن ينتهي بالسيف أيضا. وهذا هو الدرس التاريخي العظيم الذي لم يفهمه الأسد.
-
هل تعتقد بأنّ نظام الأسد كان على علم باستهداف الأماكن التاريخية بدمشق القديمة من قبل جهات خارجية؟
دمشق القديمة لا تعنيه.. إن استهدفت أو أحرقت فهذا أمر ثانوي جدا بالنسبة له لذلك من الممكن أن يكون مصيرها في عهده متروكا للإيرانيين بالكامل. سوريا كلها لم تعنيه، وهمه الوحيد كان جمع الأموال والثروة الطائلة.
-
كان يفترض إنجاز هذا الحوار منذ عام 2023 ولكنه تأجل بسبب التضييق على أصحاب الفكر إلى ما بعد سقوط النظام؟
كلنا شاهدنا مصير من ظهر على قناة الجزيرة من الداخل، من الاستجواب والاعتقال والتشهير على وسائل التواصل الاجتماعي. وخلف النظام رقيبا في رأس كل واحد منا، وباتت كل كلمة محسوبة آلف مرة، وكل ظهور إعلامي محسوبا آلاف المرات. وفي الحديث الشريف، عن الطبراني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الولد مبخلة مجبنة”. فكيف إذا كان للمرء 3 مجبنات؟ ومنذ أن رزقني الله ببناتي، قررت تجنب أي فعل قد يعرضهن ولو لدمعة واحدة، ولهذا السبب كنت أطلب تأجيل اللقاء وأقول “علينا أن ننتظر. لم يحن الوقت بعد.” واليوم قد حان.