تعرض قطاع العقارات في الولايات المتحدة الأميركية، خلال الأعوام القليلة الماضية إلى عددٍ من الصدمات المُتتالية، لا سيما في أعقاب جائحة كورونا وتراجع الطلب على المساحات المكتبية، وبما قاد إلى توتر واسع بالقطاع.
استمرت تلك الصدمات بعد ذلك في ضوء ارتفاع أسعار الفائدة (ضمن السياسات المُتبعة من قبل مسؤولي السياسة النقدية لكبح جماح التضخم)، وفي ظل تبعات الحرب في أوكرانيا على الأسواق العالمية.
كما شهد القطاع ضربة قوية فاقمت المشاكل، بعد فشل بنك سيلكون فالي وبنك سيغنيتشر وفيرست ريبابليك، وبما أثار مخاوف بشأن البنوك الإقليمية الأخرى في الولايات المتحدة والتي تمثل الجزء الأكبر من القروض العقارية التجارية.
عززت تلك الصدمات المُتتالية وانعكاساتها الشديدة على القطاع، حالة عدم اليقين بشأن مستقبل العقارات التجارية على المديين القصير والمتوسط، وفي ضوء الوضع الاقتصادي العام الذي تحده عديد من الضغوطات الواسعة، بدءًا من أزمة التضخم ووصولاً إلى إشكالية سقف الديون، مروراً بقائمة تحديات متصلة تفرضها أزمة البنوك الإقليمية وما أثارته من اضطرابات بقطاعات مختلفة.
ضغوطات متزايدة
وتبعاً لذلك، يُحذر مديرو الصناديق من المشاكل المتزايدة في صناعة العقارات التجارية في الولايات المتحدة (القطاع الذي يبلغ حجمه 5.6 تريليون دولار)، وهي المشاكل التي يمكن أن تكون مؤلمة للمقرضين الذين تأثروا بالفعل بسبب الاضطرابات في القطاع المصرفي أخيراً، طبقاً لما نقله تقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية.
رصدت الصحيفة تقديرات مجموعة من المختصين وتوقعاتهم لمآلات قطاع العقارات التجارية في سياق القلق المُسيطر على الأسواق. ونقلت عن كبيرة مسؤولي الاستثمار بشركة Guggenheim Partners ، آن والش ، قولها:
- إن الألم سيتركز في مناطق معينة من الولايات المتحدة، بما في ذلك المراكز الحضرية الكبيرة مثل سان فرانسيسكو ونيويورك، وكذلك في مباني المكاتب من الدرجة الثانية التي تحتاج إلى إصلاح.
- من المحتمل أن ندخل في ركود عقاري، لكن ليس في سوق العقارات بأكمله.
- المقرضون سيكونون انتقائيين للغاية بشأن القروض التي هم على استعداد لتقديمها.
- بعض المقرضين كانوا يطلبون ضمانات شخصية من أصحاب العقارات، حيث يتعهد المقترضون بأصولهم الخاصة لتأمين الرهن العقاري (في إشارة إلى تشديد معايير الإقراض).
ويذكر أنه في مسح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، مطلع الأسبوع، أعلنت غالبية البنوك الأميركية عن أنها شددت معايير الائتمان للقروض المضمونة بممتلكات غير سكنية في الربع الأول، بينما لم يخفف أي منها المعايير.
أبرز أسباب أزمة القطاع
من جانبه، أشار أستاذ الاقتصاد في كلية ويليامز، جيرارد كابريو، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن العقارات التجارية تعد مشكلة متنامية في الولايات المتحدة نتيجة للزيادة الكبيرة في العمل عن بعد الذي بدأ خلال جائحة كورونا.. ويضيف:
- وفق مسح أجري بجامعة ستانفورد أخيراً، يعمل حوالي 30 بالمئة من الأميركيين من المنزل، مقارنة بـ 5 بالمئة قبل كورونا و 61 بالمئة في ذروة الوباء.
- نتيجة لذلك، انخفض استخدام المساحات المكتبية في المدن الكبرى.
- من المحتمل أيضاً أن تعاني العقارات، وخاصة التجارية، من تشديد معايير الائتمان التي تم الكشف عنها أخيراً في مسح كبار مسؤولي القروض (للبنوك التجارية).
- من المتوقع أن يسهم تشديد أسواق الائتمان في زيادة تباطؤ النمو الاقتصادي خلال العام المقبل.
ويتابع: لن أقول إن الأحداث الحالية (إخفاقات 4 بنوك أميركية) تشكل أزمة في هذه المرحلة، لكن تباطؤ النمو والركود المحتمل في الولايات المتحدة سيقللان النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، وسيزيدان بدورهما من خسائر القروض في البنوك.
ويشدد على أن المأزق السياسي الحالي بشأن سقف الديون يمكن أن يتحول إلى أزمة إذا نتج عنها تأخير في المدفوعات من قبل وزارة الخزانة.
يشير تقرير “الفاينانشال تايمز” إلى أنه لسنوات عديدة اعتمد مطورو العقارات على الاقتراض بثمن بخس واستثمار الأموال في سوق ترتفع فيه أسعار الأصول. ونقل عن المؤسس المشارك لشركة Tikehau Capital ماتيو تشابران ، قوله: “الآن نرى عاصفة من ارتفاع أسعار الفائدة، ما يجبر على إعادة تسعير الأصول، ذلك إلى جانب انخفاض هيكلي في معدلات الشغل وتقادم الأصول”.
مخاطر بالنسبة للبنوك
وكان الأستاذ الزائر بجامعة فلوريدا الأميركية، جاي ريتر، قد ذكر في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الإشكاليات التي تُواجهها المباني المكتبية أو قطاع العقارات التجارية تعد مصدراً مشتركاً للقلق لدى المصارف الأميركية.
وأشار إلى العامل الذي أثار تلك الأزمة ابتداءً والمرتبط بظاهرة “العمل من المنزل” والتي شهدت نمواً في أعقاب جائحة كورونا، الأمر الذي تسبب في انخفاض قيمة بعض المباني المكتبية. ولفت إلى أن قروض العقارات التجارية لديها بعض التخلف عن السداد ، وبما يؤثر على ربحية بعض البنوك.
والشهر الماضي، حذر نائب رئيس شركة Berkshire Hathaway تشارلي مونجر من عاصفة تختمر في سوق العقارات التجارية الأميركية ، قائلاً إن البنوك “مليئة” بـ “القروض المعدومة”. وأضاف: “لدينا الكثير من مباني المكاتب المضطربة، والكثير من مراكز التسوق المتعثرة، والكثير من العقارات الأخرى المضطربة”. لكنه في الوقت نفسه يرى أن المشكلات لم تكن في نطاق الأزمة المالية لعام 2008.
عوامل الخطر والتهديد
من جانبه، يلفت المدير الأكاديمي لمركز جامعة ولاية أريزونا للعقارات، زاهي بن دافيد، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن “ثمة عدة عوامل خطر تهدد قيم العقارات التجارية الأميركية”، ويحددها على النحو التالي:
أول تلك العوامل في تقديره هو ما يرتبط بـ “انخفاض الطلب على المكاتب ومساحات البيع بالتجزئة (العقارات المكتبية)”، نظراً لأن مزيداً من الشركات تتبنى نماذج العمل عن بعد أو نماذج مختلطة، فقد تستمر الحاجة إلى المساحات المكتبية التقليدية في الانخفاض.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي ظهور “التجارة الإلكترونية” إلى تقليل الطلب على مساحات البيع بالتجزئة التقليدية. وكانت هذه الاتجاهات سارية المفعول منذ عدة سنوات، وقد بلغ تأثيرها بالفعل على قيم العقارات التجارية.
ثاني تلك العوامل يتعلق باعتماد صناعة العقارات التجارية بشكل كبير على التمويل والديون، ومع ارتفاع أسعار الفائدة في الأشهر الأخيرة، ارتفعت تكلفة التمويل، ما تسبب في انخفاض الطلب على العقارات.
أما ثالث تلك العوامل في تقدير المدير الأكاديمي لمركز جامعة ولاية أريزونا للعقارات، تتعلق بما يتعلق بمدى وصول حكومة الولايات المتحدة إلى سقف الديون، على اعتبار أنه ما لم يكن هناك حل للمأزق السياسي في الولايات المتحدة ، فإن أموال الحكومة ستنفد في نهاية مايو. وإذا حدث ذلك، فمن الصعب تقييم العواقب (بما يؤثر على القطاعات كافة).
“في أقصى الحدود ، يمكن للولايات المتحدة أن تتخلف عن سداد ديونها. ومع ذلك ، أعتقد بأن هذا ليس سيناريو محتمل. من المعقول أكثر أن يتم التوصل إلى حل وسط بين البيت الأبيض والممثل الجمهوري ، كما في الماضي”.