تكتسب أفلام ومسلسلات الحركة الكورية الجنوبية هويتها الفريدة من التركيز على العمق النفسي والتوتر السردي، لأن أبطالها لا يظهرون في صور ملائكية خالصة أو شريرة أحادية البعد، وإنما يضفي المبدع الكوري عليهم السمة البشرية، فهم إما مطاردون باختيارات الماضي، أو مضطرون لسلوكيات ومواقف وحشية. وهو ما يُضفي شعورًا بالواقعية حتى في مشاهد القتال، الذي يشارك فيه رجل عصابات يسعى للتكفير عن ذنبه، أو أب مظلوم في مهمة، أو عميل حكومي في نظام فاسد، ليجد المشاهد نفسه أمام مقاتلين مترددين شكلتهم الصدمة والواجب.
وتتجلى تلك الهوية الفريدة في مسلسل “لا رحمة لأحد” (Mercy for None) الذي يعرض حاليا على شاشة منصة نتفليكس.
وتبدو القصة مستهلكة في مئات الأعمال السابقة، وهي رحلة انتقام تقليدية، لكن الإضافة الحقيقية للعمل هي الحساسية الخاصة التي قدمت بها المشاهد الدموية، وذلك التردد الذي يصاحب الكاميرا أثناء تصوير الضرب، وكأن الكاميرا نفسها تحاول وقف القتال.
حائر بين عصابتين
تدور أحداث “لا رحمة لأحد” حول “نام جي-جون” الذي يجسده الممثل الكوري الجنوبي جي-سوب الذي شق طريقه بالدم في عالم العصابات، ثم قرر أن يختفي. وقطع وتر قدمه كعقوبة ظالمة، ولكنه كان قطعا لصلته الأخيرة بالعنف وعالم العصابات وغسل الأموال، حيث يقضي 11 عاما في الظل، بعيدًا عن الرصاص والولاء المتقلب، حتى يفجعه خبر شقيقه الأصغر “جي‑سوك” الذي قتل غدرًا.
يعود جي‑جون إلى العاصمة سول التي تغيّرت. فالعصابات التي كان يعرفها أصبحت أكثر شراسة، وقوة بعد أن دعمها رجال أعمال فاسدون وشرطة تبيع الصمت. وقرر الانتقام لأخيه المغدور، ولم يحمل مسدسًا، لكنه حمل مضرب بيسبول، وذكريات الأخ الفقيد.
ويبدأ رحلته من جنازة، وينظر في أعين القتلة المحتملين، ويقولها بهدوء “سأحطمكم واحدا تلو الآخر”. وفي كل حلقة، يفتح بابًا نحو ماضٍ مدفون يتمثل في صديق قديم خانه، وزعيم عصابة قدّم شقيقه قربانا، وشرطي قدم العدالة على مذبح النفوذ.
ويخوض رحلته إلى الحقيقة والانتقام، وكلما اقترب منهما اقترب من الموت. وكلما ضرب، انكشفت خيوط خيانة أكبر. ولم يكن مقتل أخيه سوى قمة جبل الجليد، فالقاتل الحقيقي كان ابن أحد الزعماء، والذي قرر أن يسيطر على العصابتين الكبيرتين اللتين تحكمان مدينة سول. وفي النهاية، التقيا، وجها لوجه في قتال شرس، بلا رحمة. وانتصر جي‑جون، لكنه لم يخرج حيا. وحين سقط أرضا، ابتسم. ولم يجد السلام في النجاة، بل في الوفاء، فقد وعد أخاه بالثأر، وأعطاه إياه، حتى لو كان الثمن روحه.
عالم خانق ومخيف
تتميز مشاهد “لا رحمة لأحد” بألوان باردة، وأزقة مظللة، ومطر، وإضاءة خافتة شبه دائمة، وهو ما شكل ملامح عالم خانق مخيف. واتسمت المعارك -رغم دمويتها- باللقطات البطيئة التي تلي كل ضربة، ليس لتمجيد العنف بل لإبراز بشاعته. وفي الحلقة الثالثة، عندما يقتحم جي-جون وكرًا للمخدرات، تبدو الرقصات سلسة لكنها مملة عمدًا، حيث تُبرز الإرهاق الجسدي، لا أناقة الأبطال الراقصين والمقاتلين.
وجاءت مشاهد “الفلاش باك” باهتة ومهتزة، تُشبه الأفلام الوثائقية، وهو تكنيك معاكس لاستخدام التكوين الواضح لمشاهد الواقع الدرامي، وهو دفع بالمبررات والمحفزات للاستمرار في رحلة الانتقام.
ويستخدم صناع العمل انعكاسات المرآة والزجاج المكسور عناصر للغموض الأخلاقي، وللتدليل على الأزمات الحادة التي يمر بها أبطال العمل، وخاصة جي-جون الذي يتحدث إلى نفسه من خلال مرآة تصدعت بطلق ناري في استعارة بصرية لانقسامه الداخلي بين الانتقام والفداء.
وقد استخدم المخرج المؤثرات الصوتية بشكل فعال، وخاصة في مشاهد القتال مؤثرة، إذ سببت كل لكمة دويا عميقا وثقيلا، وعلا صوت تقطيع السكاكين للحم البشري، كما أضيفت لحظات صمت قبل الانفجارات، للتأكيد على عنصر المفاجأة وقوة الصوت.
ورغم ندرة إطلاق الرصاص في مسلسل يمكن تصنيفه باعتباره معركة شبه متواصلة، فإن استخدام المسدسات في المرات القليلة التي حدثت فيها جاءت مفاجئة، ومدوية، ومفصلة، حيث يسمع صوت ارتطام الرصاصة المرتدة تماما، كما يسمع صوت إطلاقها.
وعلى العكس، اقتصد المخرج في استخدام الموسيقى التصويرية، واعتمد على مؤثرات صوتية صناعية وأوتار بيانو مُنضبطة دون أوركسترا شاملة، فقط مجرد تنافر زاحف، كما في المشهد الأخير عندما ينهار جي جون بلا موسيقى سوى تلك الصادرة عن أنفاسه وبعض المطر.

أداء وثقافة
رغم الانفعالات الغريبة والخروج عن المعتاد في الكثير من المواقف، وتباين ردود الأفعال عما ينبغي أن يكون، وخاصة الأداء الصوتي، فإن تلك الغرابة تزول حيت يعزوها المشاهد إلى الاختلاف الثقافي الكبير بين المجتمع الكوري الجنوبي والمجتمعات العربية، لذلك لا يبدو ارتفاع الصوت المفاجئ -في مشهد لا يستدعي ذلك ودون انفعال من الممثل نفسه- إلا جزءا من الأداء العام في المجتمع نفسه.
وقد جسّد جي-سوب شخصية جي-جون كرجل أنهكه الحزن بجسد متيبس، وصوت هامس، وعينين تراقبان باستمرار. وحتى عندما يواجه صديقا خائنا في مشهد بالحلقة الخامسة، لا يرفع صوته أبدًا، لكن فكه المشدود ويده المرتعشة يعبران عن أكثر مما يُمكن أن يُعبّر عنه الصوت العالي. ورغم قلة مشاهد لي جون-هيوك (جي-سوك) فإنه قدم صورة مفجعة لأخٍ أصغر لا يزال وفيًا لعائلة تخلت عنه. وقد صورت مكالمته الهاتفية الأخيرة قبل وفاته الحالة الشعورية للمسلسل.
ولم يقدم العمل شخصيات بريئة، فعالم العمل بالكامل عبارة عن عصابتين لغسل الأموال، في صورة شركتين كبيرتين لغسل الأموال، تتنافسان وتتصارعان من أجل الثروة والسيطرة، ورغم ذلك فإن ابن زعيم إحدى العصابتين يعمل “مدعيا عاما” أو “وكيلا للنائب العام” أما الرجل الخفي وراء العصابتين فهو “مفتش الشرطة”.
ويقدم العمل تصريحا صادما حول تورط منظومة العدالة وتنفيذ القانون في الفساد، ليس عبر الرشوة أو تورط الأفراد، بل عبر توظيف المنظومة نفسها في خدمة الفساد دون موانع تذكر.