أصبح معروفا أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب وما يستتبعه من ارتفاع مستوى سطح البحر يعد تهديدا للنظم البيئية حول العالم، ولكن ما يحذر العلماء منه حاليا هو تهديد بقاء الإنسان نفسه بسبب النقص الغذائي المقبل عليه العالم نتيجة تفاقم إصابة المحاصيل بالفطريات كإحدى نتائج ارتفاع درجة الحرارة.
وفي مقال نُشر في دورية “نيتشر” (Nature) بتاريخ الثاني من مايو/أيار الماضي أوضحت الباحثتان سارة جور، البروفيسور بجامعة إكسيتر بإنجلترا، وإيفا شتوكينبغوك، البروفيسور بجامعة كيل بألمانيا، سبب مخاوف المجتمع العلمي من اجتياح الفطريات للمحاصيل وكيفية احتواء المشكلة قبل أن تتفاقم.
وفي حديث إلى موقع جامعة “إكسيتر” (University of Exeter) حذرت جور من كارثة صحية عالمية بسبب الانتشار السريع لفطريات النباتات في العالم، إذ إن مقاومتها بدأت تزيد وتؤثر على محاصيل مهمة كالحبوب والبطاطس والموز.
وذكرت شتوكينبغوك أن الفطريات التي تصيب النباتات في المناطق الدافئة بدأت تظهر في أوروبا بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وإذا علمنا أن الفطريات تدمر بالفعل كميات كبيرة من المحاصيل حاليا وتواصل اكتساب مناعة ضد مضادات الفطريات سندرك حجم المشكلة.
الأمر ليس جديدا
إصابة المحاصيل بالفطريات ليس جديدا، وإنما تكرر عبر التاريخ، فلطالما أتلف فطر صدأ الساق محاصيل القمح، وورد وصف المرض في كتابات “ثاوفرسطس”، أحد تلاميذ أرسطو (370-288 قبل الميلاد).
وأحد أهم الفطريات التي كان لها بالغ الأثر على الزراعة وحياة الإنسان طوال التاريخ هو فطر الإرجوت الذي يصيب القمح والشعير والشوفان.
يتعرض الإنسان للتسمم بهذا الفطر عن طريق استعمال الدقيق الذي يأتي من الحبوب المصابة بالفطر، وتتمثل الأعراض في حدوث غنغرينا وتشنجات وهلوسة، وقد حدث تسمم بفطر الإرجوت عدة مرات بين القرنين الـ14 والـ17 وكان ضحاياه بالآلاف، كما تكررت الإصابة في الربع الأخير من القرن العشرين.
وبعيدا عن محاصيل الحبوب، تعرضت القهوة لفطر آخر يؤثر تأثيرا بالغا على إنتاجها، وهو فطر صدأ القهوة الذي تسبب عام 1885 في محو سريلانكا من قائمة منتجي القهوة بعد أن دمر مزارعها، وهبط الإنتاج على إثر ذلك إلى 5% فقط خلال 15 سنة، وما زال الفطر يتفشى في أميركا الجنوبية والوسطى.
لماذا تمثل الفطريات تهديدا حقيقيا؟
تصاب النباتات بالأمراض بسبب البكتيريا أو الفطريات أو الفيروسات أو الديدان، ولكن الفطريات تحتل المراتب الست الأولى في قائمة الآفات التي تؤثر على أهم 5 محاصيل، وهي الأرز والقمح والذرة وفول الصويا والبطاطس.
وتكمن خطورة الفطريات في أنها بطبيعتها تنتشر بسهولة، فهي تتكاثر بالأبواغ التي يُطلقها الفطر لتنتقل عبر الهواء، وفي بعض الأنواع يمكنها أن تسافر لمسافات طويلة، ففطر صدأ الساق الذي يصيب القمح على سبيل المثال ينتج أبواغا تسافر عبر القارات، وفي أنواع فطريات أخرى تبقى الأبواغ كامنة في التربة عقودا ثم تنشط لتنتج أجيالا أخرى من الفطر.
سبب آخر يجعل الفطريات مُسببة للأمراض هو قدرتها على تغيير جيناتها لتتكيف مع البيئة المحيطة، فهي تستطيع أن تستقبل جينات من أنواع فطريات أخرى أو من بكتيريا أو حتى من نباتات.
ما الذي جدد المخاوف؟
تزايد القلق حين استطاعت الفطريات أن تستغل أساليب الزراعة الحديثة لصالحها، فحاليا تُزرع مساحات شاسعة بنوع نبات واحد وتحمل كل النباتات البصمة الوراثية نفسها، يجعلها هذا فريسة سهلة لكائن سريع التحور مثل الفطريات. وزاد الموقف حرجا أن 77% من مضادات الفطريات المستخدمة حاليا تستهدف مكونا واحدا فقط في الفطر، والذي يستطيع أن يغيره بسهولة بسبب قدرته على التحور.
ولكن كيف يزيد الاحتباس الحراري من انتشار فطريات النبات؟ قد يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى إصابة النبات بالفطر مبكرا عن المعتاد (مثل الفطر المسبب لمرض اللفحة المتأخرة في البطاطس والطماطم)، أو إنقاص فترة الحضانة فتنتج فطريات أكثر في الموسم نفسه (كالفطر المسبب لصدأ القهوة)، أو زيادة احتمالية تعرض النبات للفطر (مثل الفطر المسبب لمرض بنما في الموز) بسبب الأعاصير التي يسببها الاحتباس الحراري أو ظهور حالات إصابات شديدة من الفطر (مثل الفطر المسبب للبياض الزغبي في الكروم).
كذلك يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى إضعاف مناعة النبات مما يجعله قابلا للعدوى بسهولة، وفي الوقت نفسه يؤدي لظهور أجيال من الفطريات مقاومة أكثر للحرارة المرتفعة وأكثر ضراوة.
تبعات زيادة انتشار الفطريات
يؤدي ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى ظهور فطريات كانت تزدهر عادة في الحرارة المرتفعة في مناطق لم تكن توجد فيها، ففطر صدأ الساق الذي يصيب القمح ظهر بالفعل في إنجلترا وأيرلندا في حين أنه ينمو أصلا في المناطق المدارية.
ومن الواضح أن هذه الظاهرة تعني فقدان كمية أكبر من النبات، لكن الأخطر هو أن الفطريات قد تصبح أكثر ضراوة إذا انتقلت إلى منطقة أخرى غير موطنها، مثل الفطر المسبب لسقم أشجار المُرَّان (Ash tree)، إذ إن له تأثيرا ضئيلا على الأشجار في آسيا حيث يوجد عادة، لكن بانتقاله إلى أوروبا أصبح شديد الضراوة ودمر أشجار المُرَّان الأوروبية.
وتظل إحدى أكثر الظواهر خطورة هي تحول بعض الفطريات التي كانت متعايشة مع النباتات إلى فطريات تسبب الأمراض، بل وقد تُغير عائلها وتصبح قادرة على عدوى الإنسان أو الحيوان.
سبل مواجهة الفطريات
ينبغي إعادة النظر في نوعية مضادات الفطريات، فلم يعد مناسبا استخدام مركبات تستهدف مكونا واحدا في الفطر، لأنه ببساطة يستطيع أن يغيره فيصبح المضاد بلا فاعلية، وكبديل لمضادات الفطريات يمكن استخدام أعداء الفطريات الطبيعية مثل فطر الترايكوديرما، الذي يعيق فطريات النبات عن طريق منافستها على الغذاء والمكان أو التطفل عليها.
يمكن كذلك توظيف الجينات للسيطرة على انتشار الفطريات، فتعديل النبات جينيا عن طريق إدخال جينات تعطيه مقاومة للفطريات يمثل أحد الحلول، بالذات لو أُدخل جينان أو أكثر، ثم زراعة أصناف تحمل جينات مقاومة مختلفة معا، لأن التنوع الجيني في النبات يُصعب مهمة الفطر في غزوه. لكن يظل التحدي الأكبر هو أن فكرة تعديل النباتات وراثيا لا تحظى بالقبول لدى الناس.
وبما أن الوقاية أفضل من العلاج، فتطوير وسائل اكتشاف المرض في بدايته ستحاصر الإصابة وتقلل الموارد المطلوبة للتغلب عليه، على سبيل المثال يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي ووسائل الاستشعار عن بعد لهذا الغرض.
وحين لا تتوفر التكنولوجيا يمكن إشراك المجتمع في المقاومة فيرتفع بذلك الوعي بالمشكلة، مثل إحدى المبادرات التي أطلقها باحثون في جنوب أفريقيا لإشراك الأفراد المهتمين بالعلوم في البحث عن إحدى مُسببات الأمراض لدى النبات في المزارع وتسجيل أماكن وجودها.
في جميع الأحوال لا تقع مسؤولية حماية المحاصيل على المزارعين وحدهم، بل لا بد من تقديم الدعم من كل الفئات، فعلماء النبات والحكومات وجهات التمويل وصناع السياسات يمكنهم فعل الكثير لمواجهة تحد آخر من التحديات التي نتعرض لها بسبب الاحتباس الحراري.
لقد أصبحت الفطريات أكثر قدرة على إصابة المحاصيل بعد أن ساعدها الاحتباس الحراري على غزو بيئات جديدة، وهذا ينذر بكارثة صحية عالمية ما لم تتغير أساليب الزراعة الحالية ويشترك المجتمع كله في مواجهة المشكلة.