بقلم: يورونيوز
نشرت في
كما في كل عام، يشهد لبنان زخمًا لافتًا في احتفالات عيد الميلاد، ولا تُعدّ مشاركة المسلمين في احتفالات الميلاد إلى جانب المسيحيين حدثًا مستجدًا في السياق اللبناني: المسلمون يشاركون أصدقاءهم المسيحيين أجواء العيد في المنازل، في أماكن العمل، في المطاعم والأماكن العامة التي تُزيَّن بالشجرات والأضواء.
وفي المقابل، يشارك مسيحيون المسلمين موائد الإفطار في رمضان. هذا التداخل اليومي بين الطوائف يُقدَّم غالبًا كأحد وجوه “لبنان النموذجي”، بلد الـ18 طائفة الذي تعلّم، ولو ظاهريًا، إدارة اختلافاته بالحد الأدنى من التعايش.
وعلى سبيل المزاح، تتكرر كل عام نكتة باتت مألوفة مفادها أن حضور المسلمين في احتفالات عيد الميلاد لم يعد يترك مجالًا كافيًا أمام المسيحيين لالتقاط الصور قرب شجرة الميلاد.
ظهر هذا المشهد في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن عائلة مسلمة تحتفل بعيد الميلاد، وعلّق أحد المستخدمين قائلاً: “عائلة مسلمة لبنانية تزين بيتها لعيد الميلاد بفرح صادق. هذا هو لبنان الحقيقي. نختلف في العقيدة لكننا نتحد في الإنسانية والوطن. إن شاء الله في عيد الفطر السعيد نكون معكم بنفس المحبة. كل سنة وأنتم بخير وعيد ميلاد مجيد لكل لبنان”.
وقد عكس هذا المنشور، بالنسبة لكثيرين، صورة لبنان الذي يريدون التمسك به، خصوصًا في ظل واقع ضاغط أنهك الناس بالحروب والأزمات الاقتصادية والانهيارات المتلاحقة، إلا أن هذا الجانب لم يعكس المشهد بأكمله.
خطاب ديني متشدد يعيد إشعال الانقسام
على الضفة المقابلة، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لرجال دين مسلمين ينتقدون مشاركة أبناء عقيدتهم في احتفالات الميلاد. منهم من اعتبر ذلك “عيبًا”، واستنكر انتشار أشجار الميلاد في البيوت والأماكن العامة، معتبراً أن في ذلك خروجًا عن التعاليم الدينية. هذه المقاطع لم تمرّ مرور الكرام، بل سرعان ما تحولت إلى مادة سجالية حادة، عكستها التعليقات التي انقسمت بدورها بين مؤيد ومعارض.
في التعليقات، ذهب بعض المستخدمين إلى التأكيد على أن “لبنان وطن ذو جذور مسيحية تاريخيًا”، في محاولة للرد على الخطاب الإقصائي، بينما رأى آخرون أن ما يحصل هو “تشبيح” واتهام جاهز بـ”الدعشنة” لكل من يرفض الاحتفال بعيد الميلاد انطلاقًا من قناعته الدينية.
وأحدهم كتب مستغربًا: “هل رأيتم يومًا مسيحيًا أو يهوديًا قام بذبح أضحية في العيد تضامنًا مع المسلمين أو صام رمضان معهم؟ الجواب: لا. فلماذا يُمارس هذا الضغط على المسلمين لمجرد أنهم لا يرضون مخالفة دينهم؟”.
في مقابل هذا السجال الحاد، لجأ بعض المستخدمين إلى السخرية لتخفيف وطأة النقاش. كتب أحدهم مازحًا: “رسميًا الشيعة أخدوا عيد الكريسماس… هردلاك للمسيحية”، في تعليق يعكس محاولة للهروب من حدّة الاستقطاب عبر النكتة، ولو بشكل عابر.
بعيدًا عن السجال الديني المباشر، رأت إحدى المغردات أن اندفاع المسلمين، من مختلف الأعمار، لعيش أجواء عيد الميلاد “مؤشر يعكس التعطش إلى الفرح والطمأنينة والإيمان بالمعجزات والأمل بالرحمة”، معتبرة أن الأمر يستحق المراجعة لا الإدانة، في بلد أنهكته الحروب والدماء والخذلان.
فيديو يتحوّل إلى قضية رأي عام
هذا الانقسام بلغ ذروته الأسبوع الماضي مع انتشار فيديو من مدينة طرابلس شمال لبنان، يُظهر طالبات في مدرسة يرفضن الاحتفال بعيد الميلاد. في التسجيل، تظهر مجموعة من الطفلات داخل ساحة المدرسة يتبادلن الحديث حول العيد. إحدى الطالبات تسأل زميلاتها أمام الكاميرا: “رح تتصوري مع شجرة الكريسماس؟”، فترد أخرى: “أعوذ بالله، أنا لا أتشبه بالكفار”.
كان انتشار الفيديو سريعًا ولافتًا، وتحول خلال ساعات إلى مادة رئيسية للنقاش العام. ولم يعد السؤال محصورًا بموقف الطفلات بحد ذاته، بل اتسع ليشمل طبيعة الخطاب الذي يُزرع في بيئة مدرسية يفترض أن تكون مساحة جامعة.
ولم تبقَ الأزمة في إطار السجال الإلكتروني، إذ أمر النائب العام الاستئنافي في شمال لبنان، القاضي هاني الحجار، بفتح تحقيق رسمي، معتبرًا أن نشر الفيديو وترويجه قد يحمل عناصر تحريض أو إساءة تمس بالسلم الأهلي.
خطابات معاكسة
في مقابل الخطاب المنتقد، برزت أصوات دينية مسلمة اختارت مقاربة مغايرة، تقوم على الدعوة إلى المشاركة والتقارب بين الأديان، وتأكيد القيم الإنسانية المشتركة.
في هذا السياق، ظهر الشيخ قاسم الجرمقي في فيديو، موجّهًا رسالة محبة وسلام تبرز أهمية الانفتاح واحترام الآخر.
وفي هذا السياق، توجّه العلامة علي فضل الله بالتهنئة إلى المسيحيين والمسلمين لمناسبة ميلاد السيد المسيح، معتبرًا أن هذه الولادة تمثل ميلادًا للقيم الروحية والإيمانية التي جاء بها السيد المسيح، وعانى وتألم وقدم التضحيات في سبيل ترسيخها.
وكما جرت العادة، لم تغب التهاني السياسية عن المشهد. سياسيون من مختلف الطوائف توجهوا بكلمات معايدة، في مشهد بات تقليديًا. رئيس الحكومة نواف سلام كتب: “أطيب التمنيات لكل اللبنانيين بميلاد مجيد، راجيًا أن يعزز هذا العيد الوحدة والتضامن بيننا لننهض بلبنان معًا”.













