يؤكد أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط الدكتور عادل حدجامي، أن عبارة «ما بعد الحداثة» حاملة لمعنى كبير، كونها تصنيفاً عاماً، يضع فيه بعض عشاق النعوت، كل ما لا يفهمونه في العالم المعاصر، في التشكيل والمعمار واللباس والموسيقى والقيم وأيضاً الفلسفة.
وتساءل، ما مهمة الفلسفة؟ ليجيب: من بين الأجوبة الممكنة التي قدمها فلاسفة سابقون جواب مفاده أنها تجربة «تحقيق الوعي بما يحصل في الواقع»، والراهن محاولاً أن يعي ذاته، ومقوماته وأسبابه؛ لأن الوعي بالواقع يقتضي وصفه كما هو، وحين نتحول إلى وصف واقع العالم اليوم، نلاحظ أنه واقع مختلف عن كل ما سبقه، فمفاهيم الهوية والانتماء والماهية والوحدة والاتساق كلها، عملياً، لم تعد تسعف في وصف ما يحدث، إذ إن صورة وعي الإنسان المعاصر ونمط وجوده لم تعد ماهوية ولا موحدة، وأوضح أن المواطن العربي المعاصر، كائن عالمي يفكر ويتواصل بلغات متداخلة، مع أشخاص من جنسيات وانتماءات افتراضية أو واقعية متعددة، يكتب العربية بحروف لاتينية مثلاً، ويأكل السوشي الياباني في الرباط، أو الشومن الصيني في الرياض، نحن اليوم خلاسيون وهجينون، في عالم هو بابل معممة، وهذا أدى إلى كسر الامتدادات «التقليدية» في معنى الانتماء والثقافة والقيم.
وأضاف: ابني الذي وُلِد أواسط العقد الأول بعد الألفين، أقرب مني إلى طفل في مثل سنه يعيش في كوريا الجنوبية، فأتى وليد سبعينيات القرن الماضي، وهذا تحول كبير قياساً إلى جيلنا والجيل الذي قبله، إذ كان الابن «سر أبيه» وكان الحفيد يكرر نمط عيش وتفكير جده العاشر، وقيم قبيلته وعقيدتها وقناعتها، وهذا الأمر يعمّ على كل شيء، وحين يسعى الفيلسوف إلى وصف هذا وبيان تراجع مفاهيم الانتماء والهوية فهو «لا يدعو» أو «يبشر» بشيء نظرياً، إنه فقط يصف واقعاً يحصل «عملياً».
وأكد أنه يمكن أن نحب أو لا نحب الواقع، وربما نعاديه وندعو إلى «مقاومته»، إلا أن وصفه كما هو، لا علاقة له بالمحبة أو الكراهية، فـ«الواقع لا يرتفع»، وأنْ تحبه أو تكرهه، لا يؤثر في تغيير حقيقته الموضوعية، مهما جرحت هذه الحقيقة في قناعاتنا وكسرت من أطر حكمنا الذاتية. وأضاف: أن نقول عن فيلسوف، يصف هذا الذي يحدث بأنه «نمط وجود» يتجاوز ويفجر التصور التقليدي الذي بناه العصر الحديث عن معنى العقل والهوية والانتماء، وأن الأنسب لفهمه هو التوسل بمفهوم مختلف هو نمط الوجود «ما بعد حداثي»، وهذا ما فعله ليوتار في نصه الشهير «الشرط ما بعد الحداثي»، أنْ نقول عن هذا الفيلسوف أو عن ليوتار مثلاً إنه «ما بعد حداثي» كأن تقول عن شخص يقول لك إن الأرض كروية إنه هو «كروي»، أو أن تقول حين لا تحب نتائج هذه الحقيقة على قناعاتك إنك لا تحب كروية الأرض لأنها «تشوش على قناعاتك».
رجل الأيديولوجيا وأشار حدجامي إلى أنه حين يعمل فيلسوف على «تسمية» الواقع فهو يسعى لأن يفهم ما يحصل، بما تيسر له من أدوات، ولا يدعو لشيء، إلا أن يكون رجل أيديولوجيا وهذا شيء مختلف عن الفلسفة، فالفيلسوف الحق هو -وباعتبار المستوى الفلسفي الخالص- رجل لا «يريد» شيئاً على الحقيقة، أو قل إنه «لا يعرف شيئاً» مسبقاً، إنه رجل ما يفتأ يراجع ويعيد ويغير في أسئلته قبل الأجوبة، وهذا بعيد جداً عن الداعية الذي ينتهي إلى جواب ويعتبره الخلاصة، فلا يبقى له إلا أن يدافع عما وصل إليه، وهنا يكمن الاختلاف الرئيسي بين منطق الدعوة، ومنطق الفلسفة.
ولا يعتقد شارح «جيل دولوز» من حيث المبدأ، أنه من السليم التبشير بشيء اسمه «دريدا» مثلاً، أو «دولوز» لأن هؤلاء ليسوا بأصحاب «عقائد»، أو قل إن المضمون الوحيد لعقيدتهم الممكنة هو ما نجده في شذرة نيتشه الشهيرة «أكره أن أقود غيري، كراهيتي لأن يقودني غيري». وفي ما يخص مسمى فلسفة الاختلاف، لا قيمة كبيرة لمثل هذا المسمى، ولا يصح أن نجمع مثل هذه الأسماء تحت مسمى واحد، اللهم إلا أن يكون السياق سياق الرغبة في التخلص من بذل الجهد في الفهم، وهذا أمر يعافه المفكر المتأني.
ابني المولود في العقد الأول بعد الألفين أقرب مني إلى طفل يعيش في كوريا الجنوبية
أخبار ذات صلة