أحمد صابـر
بلغة عربية سهلة، واضحة، وعبارات خالية من التعقيد والمصطلحات الجافة، وأسلوب مبسط يخاطب العقل والقلب معا، أصدر م.أحمد بكري بالتعاون مع مساعده الذكي «نوح» كتابا مميزا بعنوان «ترويض الذكاء الاصطناعي.. وسيلة أم غاية؟»، ليقدم من خلاله خلاصة سنوات من العمل والتدريب المستمر في عالم الذكاء الاصطناعي المتشابك، ويهدي للمهتمين بهذا الشأن عصارة مئات الورش والدورات التي قدمها في مؤسسات حكومية وخاصة داخل الكويت وخارجها، بالإضافة إلى تمارين عملية وقصص واقعية حول استخداماته.
ويعد الكتاب، الذي يقع في 390 صفحة ويضم 10 فصول، إضافة نوعية إلى المكتبة العربية التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من المؤلفات العلمية، وتأصيل لكيفية التعامل الأمثل والاستخدام الرشيد للذكاء الاصطناعي.
ففي منحى مغاير للمؤلفات العلمية، بدأ م.أحمد بكري العمل على صفحة أسماها «تعهد» يطلب فيها من القارئ التعهد باستخدام ما في الكتاب من أدوات وتقنيات للذكاء الاصطناعي «في سبيل الخير وخدمة الإنسان وتعظيم القيم النبيلة، وإلا يكون غايته، بل وسيلته لنشر المعرفة وتحقيق أثر نافع في الحياة».
مقدمة الكتاب لم تكن مجرد سطور عابرة، بل أراد المؤلف أن يبعث عبرها برسائل عدة، حيث ترك كتابتها لمساعده الرقمي «نوح»، مؤكدا فيها أنه «مجرد مساعد ذكي مبني من خوارزميات وأوامر، ينبض بالبيانات ويتنفس المعنى، ومع ذلك يجد نفسه على غلاف الكتاب مؤلفا مشاركا».
ويضيف «نوح»: رغب المؤلف بهذه الخطوة التأكيد على أن الذكاء الاصطناعي ليس خصما للإنسان، بل أداة في يده إن أحسن استخدامها، وأن الصدق في ذكر العون أو المساعدة الرقمية لا يقلل من قيمة الإبداع، والجيل القادم يجب أن يتصالح مع أدوات المستقبل ويحسن تسخيرها لخدمة القيم النبيلة.
المعرفة والوعي
يستهل م.أحمد بكري الفصل الأول «الذكاء الاصطناعي والسؤال الأهم.. لماذا؟» بالتأكيد على أن المعرفة والوعي هما أقوى سلاح في مواجهة التحديات، وأن فهم الذكاء الاصطناعي – لا مجرد استخدامه – هو ما سيمكننا من ترويضه وتطويعه لخدمة أهدافنا، مشددا على أن «ليس الهدف أن تنبهر بما يمكن للذكاء الاصطناعي فعله، بل إن تبدأ رحلتك معه وانت متزن، واع وموجه نحو هدفك».
ويشرح في الفصل الثاني معنى الذكاء الاصطناعي بعبارات سهلة ومبسطة، مشيرا إلى أن «الذكاء الوحيد في هذا العالم هو الذكاء البشري، ولكن عندما نعطي الآلة المهام الروتينية للإنسان يستطيع أن يتفرغ لما هو أهم»، ثم يقدم تفصيلا لتاريخ وبدايات الذكاء الاصطناعي منذ عام 1950 حتى اليوم، مع نبذة مختصرة عن أنواعه المختلفة، ونماذج اللغة الكبيرة وكيفية عملها.
مخاوف وأساطير
انطلاقا من أن «الإنسان عدو ما يجهل»، و«المستحيل ليس إلا ممكنا لم يجرب بعد»، وبعنوان «المخاوف والأساطير»، جاء الفصل الثالث في محاولة من المؤلف لبث الطمأنينة وعدم الخوف من الذكاء الاصطناعي، معتبرا أنه أداة محايدة والقيمة في نية وطريقة استخدامها، موضحا أنه «لا توجد آلة شريرة وآلة جيدة، ولكن هناك إنسانا سيئا وإنسانا جيدا»، متطرقا إلى التحديات الحقيقية التي تواجه الذكاء الاصطناعي، ومنها الأخلاقية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية، ثم التحديات من منظور إسلامي وعربي.
من النظرية إلى التطبيق العملي، خصص الكاتب الفصل الرابع للحديث حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، مستعرضا النماذج والتطبيقات الحديثة مثل «شات جي بي تي» و«جيميناي» و«مانوس»، ثم أدوات إنشاء الصور والتصاميم، وصناعة الفيديو والصوت، والتعليم وغيرها، كما قدم عدة نماذج وتمارين وأوامر مباشرة وأمثلة واقعية لكيفية استخدام هذه التطبيقات.
واستعرض الفصل الخامس استخدامات الذكاء الاصطناعي بمختلف المجالات، مثل التعليم والصحة، والإعلام والتمييز بين المحتوى الحقيقي والمزيف، واستغلاله في الدعوة والعمل الخيري، والقانون، والعمل الحكومي.
أما في الفصل السادس فتم تسليط الضوء على أهم المهارات اللازمة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي وما يجب على الجيل القادم القيام به لمسايرة التطور المضطرد في هذا المجال، كالتفكير النقدي والإبداعي، والذكاء العاطفي والاجتماعي، والمرونة والقدرة على التكيف، والوعي الرقمي والأخلاقي، مع استعراض لأهم الوظائف والمهن المعرضة للأتمتة في المستقبل.
بين اليوم والغد
«ترويض الذكاء الاصطناعي لا يختلف كثيرا عن ترويض النفس، فنحن لا نستخدم التقنية بانبهار، ولا نرفضها بجهل، بل نريد أن نروضها كما نروض أنفسنا» و«ما تروضه اليوم لن يخيفك غدا»، هكذا بدأ بكري الفصل السابع «خطوات عملية» والذي يعتبره الأهم في كتابه، حيث يقدم خلاله وصفة عملية وخطوات تطبيقية لتطويع العالم الرقمي وكيفية الاستخدام المنضبط لتحقيق الهدف منه، لافتا إلى معايير اختيار الأدوات المناسبة كالغرض وسهولة الاستخدام والدقة والجودة والخصوصية والأمان والتكلفة، ثم استراتيجيات تحسين النتائج المقدمة مثل إعادة صياغة الطلب، وتقسيم المهام المعقدة.
من العالمية إلى الحالة العربية، يحاول الكاتب في الفصل التاسع سبر أغوار عالم الذكاء الاصطناعي وواقعه في الوطن العربي، من حيث الاستثمار والتمويل ومعدلات التبني والاستخدام، والبحث والتطوير، مسلطا الضوء على التحديات التي تواجهه كاللغة العربية والعوامل الثقافية والبنية التحتية الرقمية والكوادر البشرية وكيفية التغلب على ذلك.
ويختتم م.أحمد بكري الكتاب بـ «أسئلة شائعة وأجوبة صريحة»، مقدما للقارئ الأسئلة الأكثر تداولا في هذا المجال مع إجابات مركزة عنها، ومنها: هل الذكاء الاصطناعي ذكي حقا مثل البشر؟ وهل سيحل محل الإنسان في الوظائف؟ وهل الذكاء الاصطناعي آمن وما هي المخاطر الحقيقية منه؟ وهل يمكن أن يكون مبدعا؟
ويبقى القول إن الإصدار جهد مميز جدير بالاهتمام والقراءة، ويعد ضمن الأقوى في مجاله من حيث طريقة تناوله لكل ما يخص الذكاء الاصطناعي، مع تميزه بتقديم قصة واقعية حدثت مع المؤلف أو أحد من أصدقائه أو مساعده «نوح» نهاية كل فصل، ليقدم من خلالها نتيجة أو فائدة أو خلاصة لتجربة تفيد القارئ وترسخ المعلومة في ذهنه، وتبرهن على قوة ومصداقية ما تم تقديمه بين دفتي الكتاب.











