يصيب مرض الوسواس القهري نحو 1.1% إلى 1.8% من سكان العالم حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية. وقد ارتبطت عديد من المواهب الإبداعية الشهيرة بالعلل والأمراض النفسية على مر القرون، حتى بدا الأمر وكأن المرض النفسي أصبح مرادفا ودافعا للفن والإبداع.
وعانى كُتاب وفنانون مثل سيلفيا بلاث وفان غوخ و إدوارد مونك وغيرهم من اضطراب ثنائي القطب والاكتئاب والوسواس القهري.
إذ قدمت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، في روايتها الوحيدة والأخيرة “الناقوس الزجاجي” (The Bell Jar)، صورة صريحة واضحة عن الاكتئاب واضطراب الوسواس القهري عن طريق استعراض الأفكار المتطفلة التي تعيشها بطلة الرواية إستر غرينوود، مصورة إياها كناقوس زجاجي يحاصرها ويخنقها. وقد انتحرت بلاث نفسها بعد شهر من صدور أول طبعة للكتاب في المملكة المتحدة.
عذاب لامتناه
تتصدر لوحة “الصرخة”، المرسومة عام 1893 لإدوارد مونش، قائمة أشهر الأعمال الفنية التي رُسمت تحت ضغط الوسواس القهري. ومثلما باتت الموناليزا أيقونة الفن التشكيلي في العصور الوسطى، أضحت “الصرخة” أيقونة تشكيلية معبرة عن عذابات العصر الحديث ممزوجة بالقلق وعدم اليقين.
تُصوّر اللوحة رجلا يرتدي معطفًا ويوجه نظرة شديدة الحزن والألم ويصرخ بأعلى صوته. يعتقد أن اللوحة تعكس الشعور الغامض والمضطرب الذي شعر به مونش خلال مروره بهذا الجسر، حيث تناهى لسمعه صرخات نسوة من مصحة أمراض عقلية قريبة، وكان صدى صراخهن يدوي في الأفق لدرجة أن مونش نفسه وبشكل قهري لاإرادي سيطرت عليه نوبة ذعر ظهرت في هذا الشكل المرسوم.
رجل بملامح جنونية مضطربة يعيش ألما يعبث برأسه ويصعب التخلص منه، يهرب عبر صرخته من تجربته الفعلية لصرخة تخترق الطبيعة في أثناء المشي، بعد أن تركه رفيقاه اللذان يظهران في الخلفية.
صرخات عابرة في الأفق كانت كفيلة لدفع اضطراب الوسواس القهري في رأس الرسام إلى حدوده القصوى، ليُطلق صرخته اللانهائية، فجرد الكائن الموجود في المقدمة من شخصيته وسحقه “في حالة انعدام جنسية”، لا يبدو كذكر أو أنثى، ليعبر عن عبء أن يكون الإنسان مضطرب نفسيًا أو عقليًا فقط.
الهوس بدقة التفاصيل
كان رسامًا ونحاتًا ومعماريًا وشاعرًا، عاش معظم حياته في عزلة تامة حتى إنه لم يحضر جنازة أخيه المقرب، ويعتبر اليوم أحد أعظم الفنانين على مر العصور، عانى اضطراب الوسواس القهري ويُعتقد أنه كان مصابا بطيف من أطياف التوحد، إنه الفنان الإيطالي الموسوعي مايكل أنغلو بوناروتي (Michelangelo Buonarroti)، الذي عاش بين عامي 1475 و1564.
تتميز لوحات مايكل أنغلو الجدارية ومنحوتاته ببراعة ودقة رهيبة من حيث التفاصيل. وقد عرف عنه أنه كان مهووسا بالتفاصيل ودقتها وترتيبها الصحيح لدرجة مرهقة. حتى إنه قد يحبس نفسه لأيام وشهور من أجل أن تخرج أعماله الفنية من دون خطأ يُذكر. ومع ذلك، ظهرت آثار الاضطراب النفسي والعقلي الذي كان يعاني منه في أعماله مثل “دراسات لأشياء مروعة” (Studies of Grotesques)، عام 1530.
تظهر في هذا العمل وجوه مخلوقات هي أقرب إلى “شيطانية” منها إلى “بشرية”، تنظر نظرات مرعبة للمشاهد ولم يعرف الدافع الحقيقي لمايكل أنغلو أو مصدر إلهامه لرسمها، إلا أنها -مثل عديد من الأعمال الفنية- اعتبرت وفقا للدراسات العلمية الحديثة من آثار اضطراب الوسواس القهري أو طيف من أطياف التوحد لدى الفنان، الذي عرف عنه هوسه المفرط بدقة التفاصيل.
ترجمة الوسواس القهري إلى صور
عندما تم تشخيص الفنانة اليابانية المعاصرة يايوي كوساما (من مواليد مارس/آذار 1929) باضطراب الوسواس القهري في طفولتها، لم تكن تتخيل أن هذا المرض سيصل بها إلى حدود العالمية. فهي اليوم واحدة من أعلام فن البوب في اليابان والعالم بأسره، وأثرت على مشاهير فن البوب من أمثال آندي وارهول وغيره.
في سيرتها الذاتية، تصف كوساما نفسها بأنها “وسواس قهري يمشي على الأرض”، كما تصف فنها بأنه تعبير عن مرضها العقلي، حيث بدأت الرسم منذ طفولتها وتعاملت مع عديد من الصور الهوسية التي كانت تسيطر على عقلها.
ومن أجل أن تسيطر هي على تلك الصور، حاولت كوساما أن ترسمها وأن تعيد تكوينها بصريًا، وقد كانت تلك طريقتها الوحيدة للتخفيف من حدة الأفكار القهرية التي تعبث برأسها.
وتعد سلسلة لوحات كوساما “شبكة اللانهائية” (Infinity Net)، أكثر أعمالها شهرة. وهي لوحات زيتية عبارة عن لونين اثنين فقط، واحد يعتبر أرضية مؤسسة للوحة والآخر عدد من النقاط اللانهائية فوق تلك الأرضية، ونمط الشبكة مستوحى من هلوستها وتمثيل يعكس فكرتها القهرية عن “محو الذات” على حد تعبيرها.
الأقسى من ذلك أن كوساما أوضحت في سيرتها الذاتية (2011)، أنها في أثناء رسمها شبكة اللانهائية للمرة الأولى عانت نوبات وساوس قهرية شديدة، وكانت ترسم تلك الصور المتشابكة على كل ما تقع عليه عينها وقد استمرت في جميع أنحاء الإستوديو الخاص بها حتى انتهى بها الأمر أن رسمتها على جسدها.
باختصار، يعيش المصابون باضطراب الوسواس القهري حالة قهر بين أنياب الأفكار التي تستهلك من نفوسهم وأرواحهم ما لا طاقة لبشر به. وإن كانت تلك الأعمال الفنية بديعة أو ذكية فهي للأسف نتاج خوف قاتل من ارتكاب خطأ ما، وشك مفرط ومستمر في رأس الفنان من أنه مهما اجتهد لن يكون أبدًا جيدًا بما يكفي.